يجب أن أعترف أن إمارة الفجيرة في دولة الإمارات منحتني بعض أسرارها؛ فهي التي أدخلتني إلى جو ذلك العشق. وكان لزامًا عليَّ أن أُجِد ألفاظ المعاني التي أُعبر بها عما يجيش بصدري، ولكي أكتب كما لم أكتب من قبل عن مكان سواها.
كما أعترف وأنا في عُزلة كتابة (هذا العشق) الذي قارب العشرين عامًا، أنني كنت أُحس بتلك النفحات التعبيرية التي تأتيني أصواتها مع الريح، ومع لألات نجوم السماء، ومع هسيس النخيل، ومع انسياب البحر وتدفقاته وتموّجاته؛ فيا لها من تجربة عجيبة عشتها خلال لحظات (هذا العشق) وسط هذه الإمارة الجميلة والهادئة.
ورغم أن الشائع من القول هو: أن (الغرباء) هم الأكثر رغبة في الكتابة عن المدن؛ فإن الإبداع لا يعترف بالانتماء، ولا بمَن يكتب عن هذا الانتماء؛ لأنه بوتقة تنصهر فيها كل أشكال القيود، وتتلاشى ضمنها الحدود؛ فالأفكار لا سلطان عليها ولا قيود تأسرها أو أمكنة تسكنها.
ومع ذلك حين نطلع على ما كُتِب حول المدن؛ نكتشف أن الغرباء كتبوا عن مدن سكنتهم أفضل من أهلها، ربما هذا يرجع إلى أن الغرباء لديهم القدرة والشفافية والتمكُّن من اكتشاف ما قد يبدو عاديًّا لأهلها؛ لأن زاوية رؤيتهم مختلفة، وأعتقد أنه يكفي كدافع للكتابة. وربما كانت الألفة هي الأكثر صدقًا في الكتابة عن المدن، لكنها جدُّ محدودة؛ لأن الكتابة تتطلب التواجدَ والانتماء الجسدي والمعنوي؛ لأن تصوُّري هو أن مَن يعرف الأمكنةَ يستطع استنطاقَها أفضل ممن لا يعرفها.
الفجيرة إمارة الكنز الدفين الذي ينتظر مَن يستكشفه، إنها حلم شهريار الماضي وألف ليلة وليلة؛ بمنائرها المطليَّة بالبياض، والأخضر والكاشاني، وبحرها الخالد، وسلاسلها الجبلية، وشلالاتها ووديانها الجارية وواحاتها، وشواطئها الرملية الممتدة، وينابيع مياهها الحارة والباردة والمعدنية، ونخيلها وبساتينها وطيورها، وزوارقها وقِلاعها، ومساجدها القديمة، وواحاتها التي تزخر بالعديد من هذه الرياضات؛ بسبب مياهها الصافية، وأيضًا لوفرة وتنوُّع الحياة البحرية.
الفجيرة التي اجتمعت على ساحتها، أنواعٌ شتى من فنون التراث والحضارة، واجتمعت وتوحَّدت تحت رايتها أجناس مختلفة، وغيرها من النعوت والأوصاف، نبع حيوات لا ينضب؛ فالوافد عليها لا يريد أن يُبارحَها، والخارج منها تنهشه الحسرة والندم، وتبقى رنانة في خياله مثل رَنَّة ليرةٍ من الذهب الخالص.
وقد وقفت الفجيرة متأرجحةً على طرفي هذه المقارنة، فمنذ عصورها الذهبية وحتى هذه الساعة، كمكان يُربِك أي وافد إليها، ولا يستطيع أن يختزل أبعادها في أي بعد، سواء أكان تاريخيًّا أو ثقافيًا أو اجتماعيًّا أو يومًا مُعاشًا.
لقد ظلت الفجيرة، كمكان، ذاكرةً تُدوِّن تاريخها، بمسارين: تاريخ يتحدى التاريخ الرسمي، ويُوغل في الأسطوري والشعبي، ويوازيه ويتحداه بتحدٍّ لا مثيل له، وتاريخٌ واقعيٌّ يُشكل بصمات الرسمي والأسطوري والشعبي. لهذا نرى أن مأثرة الفجيرة وتاريخها يكمن في أنها اجترحت أسطورتها وتاريخها الخالص. وظل هذا التأرجح يُؤجِّج جذوةَ الحنين إليها، ويخلط السحر بالواقع، والمكان بالزمان؛ لتشكل اسمها السحري في الذهن صورة رومانسية مُدهشة.
وإذا كان ماضي الفجيرة ينثر عبق الأجداد وتاريخ المدن والأماكن والموروثات الشعبية وحكاية الصيادين عن البحر وأسراره؛ فإنها اليوم عروسُ المدن، تتباهى بنشاطاتها العلمية والثقافية والاقتصادية، وبضيوفها من كل الأجناس واللغات، ومن كل حدبٍ وصوْب.
مدينة هادئة اختصرت العالمَ بجمالها وأنشطتها، من خلال حكمة الحاكم وتواضعه، وبصيرته الهادئة والرزينة، وعشقه لشعبه الأصيل، ورؤيته الثاقبة في تسيير الحكم والعدل والإحسان، حيث فتح أبواب قصره مُشرعةً للعباد من أهله، ومن مختلف الجنسيات؛ ليستمع لصاحب الشكوى بتواضع الحكماء، ويتحاور مع المثقف والعالِم والمتعلِّم بنفس لغاتهم وعقولهم. حاكمٌ صنع لها مكانةً متميزة في عالم مزدحم بالفعاليات المجتمعية؛ ففجَّرَت ينابيع مياه الفجيرة تألقًا وأبداعًا، وسقت كلَّ العطشى الذين يبحثون عن مياه الإبداع والعشق.
الفجيرة ليست مجردَ مكان، إنها محبوبتي التي أنحاز لها بفطرة الوفاء، فقد عشت أجمل العمر فيها، وتعلمت منها دهشة الناس والمكان والحياة، مثلما أعطيت لشبابها العلوم والمعارف.
أكتب عنها اليوم بعد إن غادرتها منذ سنوات، لانفاقا وإنما وفاء لها، ومازلت أحنّ لها، وأزورها باستمرار بلهفة العاشق. فيها الرجال من معدن الذهب لمعاناً وتواضعاً وحباً للخير .إمارة تنبض بالحياة، وتتفجّر الحكمة فيها، وتنبع الرحمة بأجوائها، وتزدهر المحبة بين سكانها، وتترعرع أشجار العدل في مؤسساتها ومجالس حكمها. هي (رئة) الإمارات كما أطلق عليها الشيخ محمد بن راشد. منها تتدفق ينابيع الحياة، وفيها خزائن الدنيا، وعليها تختصر حكايات المدن العاشقة!