إفروان (النيجر): لم يدَعْ الغونج أحمد خضخضات شاحنة البيك-آب وهي تتقدم على دروب الصحراء الوعرة في شمال النيجر تنهكه، ولا الغبار الذي راح يلطخ بلونه الداكن ثوبه الأزرق الفيروزيّ تحبطه، بل أطلق العنان لفرحته حين لاحت أضواء واحة إفروان في الليل الصافي.
وصل موكب رئيس البلديّة أخيرا إلى قريته المستكينة بين الجبال والصحراء للمشاركة في مهرجان "آير"، أحد اكبر مهرجانات منطقة الصحراء الذي يحتفي بتراث الطوارق وثقافتهم، والذي أقيم هذا الأسبوع.
وخلال المهرجان الذي يحمل اسم سلسلة الجبال المهيبة المحيطة بالمنطقة، تتحوّل قلعة إفروان الواقعة على مسافة 1200 كلم من العاصمة نيامي، لثلاثة أيّام إلى واجهة سياحية لبلد مهدّد على كلّ من حدوده بفعل الحرب التي يشنها الجهاديون في المنطقة.
قصد إفروان هذه السنة حوالى خمسة آلاف شخص معظمهم أعيان محليّون وبينهم بعض الأجانب، فبلبلوا سكينة الصحراء وخمول سكّانها بحركة متواصلة من السيارات الرباعيّة الدفع التي تعبر بكامل سرعتها تاركة خلفها سحابات كثيفة من الغبار.
بين العروض الموسيقيّة ومسابقات الجَمال، يمضي المشاركون ساعات طويلة ممدّدين على فرش يتحادثون وهم يحتسون الشاي، في نقاشات تكشف عن تجذّر الهويّة الخاصّة بالمنطقة، ولو أن الجلسة تتخلّلها أيضا إشادات بمزايا شاحنات تويوتا.
راقص من الطوارق خلال مهرجان آير في إفروان في النيجر في 4 ديسمبر 2022 |
لولا الانتشار العسكري الكثيف في المحيط، لكان المتفرّج يخال نفسه عاد في الزمن عشرين عاماً إلى الوراء، حين كانت عائدات السياحة تشكّل قسما كبيرا من اقتصاد هذه المناطق الصحراوية المعتمد إلى حدّ بعيد على نشاطات غير رسمية، وحين كان الذين أصبحوا لاحقا قادة حركات تمرّد مجرّد مرشدين سياحيّين.
كانت النيجر في ذلك الزمن، على غرار مالي، قبلة سياحية كبرى في غرب إفريقيا، وكانت إحدى شركات الطيران تسيّر رحلات مباشرة بين باريس وكلّ من إغاديز وغاو وكيدال وغيرها. وظل رالي باريس-داكار لوقت طويل يعبر هذه الصحراء.
لا تزال تلك الحقبة تلهم المخيّلات، وتسعى نيامي لاغتنام ذلك رغم حركات التمرّد الماضية وحاليا الحركات الجهادية التي تتمدّد في منطقة الساحل.
إثر قتل ستّة فرنسيّين عام 2020 على مسافة بضعة كيلومترات من نيامي، أعلنت فرنسا النيجر "منطقة حمراء" وأوصت مواطنيها "بشدة" بتفادي الذهاب إليها، بعدما كانت في الماضي المصدر الرئيسي للسيّاح لهذا البلد. ونصحت باريس الفرنسيّين الراغبين في زيارة إفروان بتأجيل رحلتهم "المحفوفة بالمخاطر".
وحمل مساعد رئيس البلديّة حمادي يحيى على "هذه السفارات" التي "افتعلت هوساً" في حين أن النزاع يجري على بعد أكثر من ألف كيلومتر من إفروان، مؤكدا أنه "تم تأمين كل المنطقة هنا".
وإلى الجنود المنتشرين بأعداد تفوق في بعض المواقع عدد روّاد المهرجان، قال ريسا أغ بولا، المرشد السياحي السابق الذي تزعّم حركة تمرّد وهو اليوم مستشار للرئيس النيجري محمد بازوم، إنّ عشرات المتمرّدين السابقين الذين يُعرفون باسم الإيشومار "نُشروا في الصحراء من حول" الموقع.
وخلال الرحلة إلى شيرييه، بوّابة تلال تينيري، حيث أقيم قسم من المهرجان، يمكن رؤية شاحناتهم براياتها البيضاء، متمركزة في البعيد لمراقبة الطريق التي تحوّلت إلى مسار سباق بين حوالى ثمانين سائق يتبارون بخشونة مطلقين العنان لآلياتهم على الرمل.
تقدّم أطباق اللحم المشوي فيما تتردّد أصداء آلات الغيتار الكهربائيّة بين الكثبان الرمليّة الزهريّة، ثاني أعلى كثبان في منطقة الصحراء كما يؤكد السكان المحليون. يقول الموسيقيّ عمارة مختار المعروف باسم بامبينو "وكأنّنا نعزف في ديارنا"، موضحا أن الصحراء هي"المكان الذي ولدنا فيه، والذي كبرنا فيه، تذكّرنا بجذورنا".
عاد المدير الإيطالي لوكالة السفريّات "سوسييتي فواياج ساهاريان" روكو رافا هذه السنة إلى الصحراء لأول مرّة منذ 15 سنة. وهو نشأ في أغاديز، مركز المنطقة، وطوّر فيها نشاطه في المجال السياحي قبل أن ينتقل إلى التشاد المجاور عند انتشار "الاضطرابات" في النيجر.
يقول "هناك طلب شديد" مشيرا إلى أنّه جاء لدرس احتمال تنظيم رحلات سياحية إلى المنطقة. لكنّه أضاف أن الوضع ملتبس موضحا "إن كان المكان آمنا فعلا، فسوف يسألنا السيّاح لماذا نحتاج إلى مواكبة عسكرية".
وتفرض نيامي على أيّ غربي يزور الصحراء مواكبة مسلّحة لقاء بدل ماليّ. وسأل عامل آخر في المجال السياحي طلب عدم ذكر اسمه "في أي بلد من العالم يتجوّل السيّاح مع رشاش أمامهم ورشاش خلفهم؟"
وقال رئيس جمعية حرفيّي إفروان قادر حمامدة الذي يصنع الحلي منذ ثلاثين عاما، إنّه لا بدّ من التسليم بأن مرحلة "ما قبل" انتهت، وأن "السياحة التي سنشهدها الآن ستكون على الدوام بمواكبة عسكريين" مضيفا "لا أدري إن كان هذا يجذب السيّاح..."
لكن هذا لا يعني أنّه سيستسلم. وإن لم يعد السيّاح يأتون إليه، فهو الآن يذهب غليهم. عوّل قادر حمامدة على معارفه لقلب معادلة عمله، فبات يقصد فرنسا بنفسه كل سنة لبيع حلي ومنتجات جلديّة خاصة بالطوارق. يقول "لا بدّ لنا من السعي لتصريف مخزوننا في مكان آخر".
ويبدو أن الرحيل من المنطقة هو هدف العديد من سكّانها الذين باتوا يتوزّعون بين ساعين إلى الهجرة وباحثين عن ذهب.
يغادر محمد بوعميد (22 عاما) مدينته أربعة أشهر للتنقيب في أعماق آبار مواقع البحث عن الذهب في الصحراء، على أمل تحقيق ثروة. ويقول "لم يعهد ثمة ما نفعله هنا".