قبل سنوات - عشية الريفراندوم في إقليم كردستان2017 - أقيم احتفال تضامني بهذه المناسبة، في بلد أوروبي، وظهرت في مقطع فيديو لقطة لشخص يرفع علم إسرائيل. التقط العشرات، بل المئات، من الكتاب والسياسيين، وأصحاب منصات التواصل الاجتماعي - ممن يعادون الكرد - هذه الصورة، ليجعلوا منها ذريعة للهجوم عليهم، واتهامهم بالأسرلة والانفصال لا السعي لإحقاق الحق بعد تنكر الشريك القسري للرابط الجامع، رغم أن هؤلاء أنفسهم كانوا ضد الفيدرالية أصلًا، وهم متشربون بثقافة معادية للكرد، أبعد من هذا التاريخ، رغم كل ما قام به الكرد من نضال تاريخي في الدفاع عن الرابط الجامع، منذ ماقبل صلاح الدين الأيوبي ومروراً بعهده وإلى الآن؟. وما حدث في ذلك النشاط كان مجرد تصرف فردي في تجمع تضامني، لا يمكن استبعاد أي شخص منه أو منع ما يقوم به، طالما أن وجوده ومايقوم به لا يخالف قوانين الحاضن للاحتفالية. وكلما قرأت لمن استغلوا تلك اللقطة، كنت أضحك في داخلي من سطحية العقل الذي يبحث عن ذرائع كهذه للنيل من الآخر، بدل أن يتساءل: لماذا لا نبادر نحن بالانفتاح على إخوتنا الكرد؟ أقصد: لماذا لا نمنح الكردي حقه ونفتح المجال أمام من لانحبهم أن يستغلوا ذلك أو يدعو لإنصافه؟!
وكان الأمر ذاته قد حدث في احتفالية كولن التضامنية التي سبقتها، للمناسبة ذاتها، حيث ضجت وسائل التواصل بالحدث، رغم أنني شخصيًا شاهدت المشهد بأم عيني، ولم تكن للجهة المنظمة أي علاقة به. باعتبار أن أية فعالية مسؤولة عن العلم أو الشعارات التي ترفع على المناصة، عندما يكون النشاط في الهواء الطلق، وليس ضمن صالة مغلقة، وما جرى لم يكن سوى رد فعل فردي غير منظم، جاء بعد انقلاب العالم كله على الاستفتاء، وصدور تصريحات من قبل مسؤولين في إسرائيل- بلا رصيد- بصدد دعمهم له، وهو ما منح أعداء الكرد ذريعة واهية دون أن تكون هناك ترجمة عملية لهذا الدعم المزعوم.
هناك كرد كردستانيون أصولهم من إقليم كردستان أو من كردستان تركيا أو سوريا، وهؤلاء لم ينقطعوا يومًا عن قضايا شعبهم وجيرانهم في آن، لكن ذلك لم يمنع آخرين من التشكيك بولائهم، من قبل سدنة الفكر العنصري وتلامذتهم، وأبواقهم، وكأن الكرد بحاجة دائمة إلى تقديم شهادات تثبت انتماءهم. والغريب أن هؤلاء المشككين أنفسهم لا يطرحون الأسئلة ذاتها على أنفسهم، رغم ما لديهم من ارتباطات وتحالفات قد لا تكون دائمًا متسقة مع مصالح شعوبهم.
إقرأ أيضاً: دولة المماطلة: بين الحلم بالمواطنة وواقع الإقصاء
أطرح هذه القضية هنا لأنني أتبنى موقفًا أخلاقيًا ضد كل احتلال، وفي مواجهة كل ظلم، وأدعو إلى السلام العادل في فلسطين وكل بقعة في العالم، كما بالنسبة إلى شعبي في كل أجزاء كردستان. كما أنني، في أكثر من مرة، أكدت أنني لا أقبل أي دعم مالي من أي جهة لا تتوافق مع قناعاتي، حتى عندما عُرضت علي ترجمة عمل أدبي لي إلى العبرية، وكان الوسيط مترجمًا عربيًا فلسطينيًا، طلب مني توقيع عقد لاستلام مكافأتي مسبقًا، فاعتذرت. يسعدني أن تُقرأ أعمالي في أي مكان، لكنني رفضت استلام أي مبلغ، رغم تأكيده أن الجهة محايدة وصديقة للعرب، وهو ما فوت علي فرصة ترجمة العمل التي بدت لي مترابطة مع استلام مبلغ، رفضت استلامه!
الباحثون عن الذرائع لا يتوقفون. فقد تم تداول خبر رفع علم إسرائيل في احتفال بعيد نوروز في قامشلي 2025م (2637 ك)، وانتشرت صورة لشخص وحيد، معزول عن التجمهر، يرفع العلم. لا أعرف كيف تم العثور على هذه الصورة، لكنها انتشرت كالنار في الهشيم، رغم أنها لا تعني شيئًا أكثر من كونها تعبيرًا فرديًا قد يكون رد فعل على حالة العداء المستمر ضد الكرد، ويمكن لأي متمعن بعيداً عن القراءة - السيميائية - أن يدرك أن هذا الشاب يقوم بهذه المبادرة، من تلقاء نفسه، وأن ملامحه قد تقول أكثر، بما يدحض التهمة ضد المحتفلين، في إطار محاولة التعكير والتعتيم والتشويه و النيل من أعظم نوروز تم منذ تأسيس سوريا، وحتى اليوم، كردة فعل مرتدة عليهم، لمحاولة إيغار صدر أولي العهد الجديد الذين أوعزوا برفع العلم الكردي مع السوري، لكبح المبادرة، وإعادة الموقف من الكرد إلى سابق عهد النظام البائد!
إقرأ أيضاً: السيد الشرع في دوامته
لكن المثير للدهشة ليس مجرد تضخيم هذه الحوادث، بل في السؤال الأهم: لماذا يطلب هؤلاء من الكردي مقاطعة عدو لهم، بينما لا توجد بينه وبين هذا العدو أي عداوة مباشرة؟ لماذا يطالبونه بقطع أي صلة مع اليهود، رغم أن هناك آلاف الأسر الكردية اليهودية التي لا يزال أبناؤها يتحدثون الكردية، ولهم فرقهم الفنية، ويحتفلون بعيد نوروز سنويًا؟
وإذا كان الشركاء يرون أن من حقهم مطالبة مواطنيهم الكرد بالتضامن معهم ضد محتل أرضهم، فلماذا لا يلتزمون هم بالموقف ذاته تجاه من يحتل أرض الكرد؟ لماذا يقيمون علاقات متينة مع تركيا- على سبيل المثال وكغيض من فيض- ويدافعون عنها، رغم أن حكامها يقدمون أنفسهم كأعداء للكرد، ويرفضون مجرد فكرة كردستان، حتى لو كانت على سنتيمتر واحد في أي بقعة في العالم؟
لقد أقام بشار الأسد نفسه علاقات على أعلى المستويات مع تركيا أردوغان، ولم تتوتر إلا مع اندلاع الثورة السورية، وكان قد قال في حوار صحفي وهو في تركيا: "إقامة دولة كردية خط أحمر". ورددت شخصياً، عليه، في مقال لي، آنذاك، وأنا على أرض الوطن.
ولا ننسى أنَّ المعارضة السورية، بدورها، وقفت إلى جانب تركيا، وهي تحتل أراضي سورية: بينما عاثت الفصائل التابعة لها فسادًا في عفرين، باعتقال الكرد وتسليمهم للحكومة التركية، ولا يزال كثيرون منهم في السجون هناك، وكان السؤال: إذا كانت إسرائيل عدوة للسوريين لأنها تحتل أرضاً عربية فلم الانفتاح والاستسلام أمام تركيا وهي تحتل أرضاً سورية: كيليكية- إسكندرونة إلخ؟ ألسنا هنا أمام تناقض مقيت وفاضح؟
إقرأ أيضاً: قمم جيايي كورمينج تتوهج بنار نوروز 2025
هؤلاء السوريون لا يواجه بعضهم كلمة واحدة لعواصم عربية منفتحة على إسرائيل، ولها سفارات في بلدانها، وفي مطلعها: قطر، بل لهم علاقات طيبة معها. أليس هذا تناقضًا؟ فلماذا إذن يُنتظر من الكردي أن يكون فلسطينيًا أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، بينما لا يُطلب من غيره تطبيق المعايير ذاتها على نفسه؟
أجل هؤلاء - وليس الكرد - من يرفعون علم إسرائيل في أعالي مباني سفارات لها في أكثرمن عاصمة عربية علناً ما عدا العلاقات غيرالعلنية؟
العهد الجديد في سوريا ليس مختلفًا - كما يبدو إلى الآن - عن سابقه. إذ لديه علاقات متينة مع تركيا - وأرجو ألا تكون على حساب مواطنه الكردي الذي ينتظر فتح مجال الانخراط في مواصلة التعاضد والتعاون الوطنيين، في أرقة مستوياتهما، وألا تتمّ المساومة عليه - لكن العلاقات التي تتم من قبله - للأسف - مع تركيا تبدو في ظاهرها ممهدة ومؤسسة على حساب الكرد، نتيجة تهافت و محاولة تركيا تقديم نفسها في موقع الوصية، وكأنها هي من أسقطت بشار الأسد وهي من أتت بالإدارة الجديدة، رغم أن ذلك غير صحيح لكنها تحاول تجيير كل شيء لمصلحتها وضد الكرد. رأس قائمة أعدائها. بل تراهم أعداءها الحقيقيين، كما بعض هؤلاء الذين يرفعون سيف العهد الجديد، من شأنهم أن يرفعوا أي سيف لأي حاكم، لكنهم لا يطبقون على أنفسهم ما يريدونه من شريكهم الكردي. إذ يطالبونه بمواقف أخلاقية تجاههم، ولا يلتزمون بمثلها، من جهتهم؟!
إقرأ أيضاً: الأسد والبعث وثنائية الأكثرية والأقلية
شخصيًا، أنا مع الالتزام الأخلاقي بين الشركاء، لكن لماذا لا يمتلك جميع الأطراف الضمير ذاته؟ أهو شعور بالوصاية على الكردي؟ تلك الوصاية التي يرفضها، إلا إذا كان شريكه على القدر ذاته من المساواة والمواقف؟