: آخر تحديث

مزايا وحسنات إتفاقية سايكس- بيكو

201
217
190

أنا لا أكتب تحت هذا العنوان بقصد المناكفة بعد أن قرأت أحد المعلقين المعروفين في الإعلام العربي يكتب عبارة تقول.. " إتفاقية سايكس – بيكو القذرة " وهو ما نبا في القول وفي الكتابة، فلو قال هذا الإعلامي المعروف الاتفاقية الجائرة لما دفعني إلى مثل هذه القراءة التاريخية الموضوعية خاصة وهو يستحضر فيما يستحضر وباءً عطل العقل العربي وهو الأدلجة، حتى قال بها أحد الأدباء العرب.. يولد الطفل العربي من بطن أمه وهو يعرف ما في الحياة وما بعد الحياة. والسياسيون في المشرق العربي يبدؤون جميعهم السياسة بلعن "سايكس – بيكو ".

 وباء الأدلجة العربي هو ما كتب تاريخاً للعرب والمسلمين لا يشبه التاريخ. إبّان تواجد الاستعماريين الانجليز في بلادنا كنا ندرس في المدارس تاريخ أوروبا، التاريخ الحقيقي لتطور الحياة في أوروبا بكل مفاتنها واعتواراتها ؛ أما بعد أن طردنا الانجليز وعربنا المناهج صرنا ندرس ما يسمى " تاريخ العرب والمسلمين " وهو لا يشبه التاريخ في كل دروسه فلم يؤرخ مثلاً فيما أرخ أن سعد بن أبي وقاص فتح العراق بحرب القادسية و" وزع أرض السواد (العراق) وما عليها من علوج (سكان العراق كعبيد) أنصاباً على أمراء الجيش ومجندية " ولما غضب الخليفة عمر بن الخطاب لأن " ابن الوقاص لم يبقِ شيئاً للدفاع عن الثغور"، بمعنى أنه لم يبقِ نصيباً للدولة يساعدها على فتح بلدان أخرى، عارضه نقيب الصحابة عبد الرحمن بن عوف بالقول " لما الغضب يا أمير المؤمنين فهذا هو ما أفاء الله به عليهم! ". ما علق في ذهني من كل تاريخ العرب والمسلمين صيحة بن علقمة " قتلت رستم ورب الكعبة " ولم يذكر تاريخ العرب والمسلمين أن بن علقمة قتل رستم وهو يغرق في ماء النهر ولا يستطيع انقاذ نفسه بسبب كسر في عموده الفقري بسبب سقوطه عن الفيل، وهو ما شكل جريمة حرب نهاهم عنها الخليفة عمر كما قيل. تاريخ العرب والمسلمين المؤدلج الذي قرأناه في المدرسة هو في حقيقته ضد الاسلام إذ غيّب النبي محمداً ثائرا من أجل الفقراء وإطعام اليتامى والمساكين ضد أغنياء مكة تجار قريش، هذا الثائر العظيم الذي أنفق ثروة طائلة ورثها عن زوجتة خديجة في سبيل تحقيق هذا الهدف الرئيسي النبيل الذي قفز عنه العرب والمسلمون فجردوا الإسلام من رفعته التاريخية والدنيوية. 

وهكذا لا يقرأ العرب التاريخ قراءة موضوعية، قراءة الوقائع كما هي وليست كما في مخيال الإيديولوجيا العربية. فلنقرأ سايكس – بيكو كما هي بحسناتها وسيئاتها وفق الظروف التاريخانية..

الإمبرطورية السلطانية العثمانية هي من الامبراطوريات الأسيوية البطريركية التي لم تكن مسؤولة تجاه مواطنيها عن أي شيء عدا الأمن الذي هو أصلاً أمن الدولة، وبالتالي فمواطنوها مجردون من أية حقوق. يمارس السلطان سلطاته عبر ولاة على الأقاليم المختلفة التي لا تحدها حدود جغرافية من واجبهم جمع الضرائب المختلفة لأمر السلطان وما عدا ذلك الفصل في الخلافات بين الأهالي في المدن والقرى التابعة للوالي. أربعة قرون لم تترك السلطنة العثمانية أثراً حضارياً في امبراطوريتها الواسعة الشاسعة التي عبرت ثلاث قارات في الشرقين الأوسط والأدنى. السلطنة العثمانية لم تمتلك من الشرعيات سوى شرعية الخلافة الاسلامية وهي مجروحة إذ لم ينتسب أي من سلاطين آل عثمان للقرشيين العرب وهو شرط الخلافة الأول. حتى شرعية الأسلمة لم تستوجب الخليفة العثماني بناء دور عبادة للمسلمين. لم يكن هناك مدارس للتعليم ولا مراكز صحية او مواصلات أو اتصالات ؛ لم يكن السلطان ينفق "متليكاً" واحداً على خدمة رعاياه. والخط الحديدي الحجازي الذي أعلنه السلطان عبد الحميد الثاني خدمة للحجاج واستجر معظم النفقات علية من رعاياه إنما كان في واقع الأمر تحصيناً لأمن الامبراطورية ونقل الجيوش وقد بناه الألمان تحضيراً لتحالف دول "المركز" في الحرب العالمية الأولى الذي ضم الامبراطوريات الألمانية والنمساوية والعثمانية ضد الحلفاء، إنجلترا وفرنسا وروسيا القيصرية.

مع بداية القرن السادس عشر خضع المشرق العربي لحكم العثمانيين بعد خضوعه لستة قرون تحت سلطة امبراطوريات غريبة على العرب، فارسية ومملوكية، فغدا العرب كالمستجير من الرمضاء بالنار. تراجع الانتاج الزراعي والصناعي بفعل الضرائب الباهظة والإنفاق على الحروب التوسعية والتجنيد الاجباري (سفر برلك) المأساوي والحرب في اليونان 1821 – 1832.

إهتبل العرب فرصة التحرر من نير الإحتلال العثماني البغيض في الحرب العالمية الأولى حيث عمدت الدول الرأسمالية الامبريالية بريطانيا وفرنسا ومعهما روسيا القيصرية إلى تقاسم تركة " الرجل المريض ". إذاك أعلنت البورجوازية الشامية " الثورة العربية الكبرى " في العاشر من يونيو حزيران 1916 ضد السلطنة العثمانية عندما لاحت في الأفق هزيمة العثمانيين، وبعد أن عقدت مؤتمراً عاماً لها في بصرى الشام اتخذ قراراً بتشكيل "المملكة العربية المتحدة" وتضم سوريا الكبرى والعراق وشبه الجزيرة العربية وملكها الشريف حسين بن علي شريف مكة. شكل الشريف حسين جيش الثورة من متطوعين من بدو الحجاز مع خيولهم وجمالهم وبنادق قديمة يقودهم ضباط شوام بقيادة فيصل بن الحسين.

القوى الثورية في الثورة العربية الكبرى إقتصرت أولاً وأخيراً على البورجوازية الصغيرة الشامية الفقيرة التي تعتمد على الصناعات اليدوية يؤيدها أعداد قليلة من المثقفين. والمملكة العربية المتحدة التي خططت لإقامتها امتدت جغرافياً لمدى انتشار الصناعات الحرفية الشامية (Catchment) دون أن تضم مصر أو أياً من البلدان العربية الأفريقية. أما جيش الثورة فقوامه بدو الحجاز الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الثورة ولا تعبر عن مصالحهم ولم تمدهم البورجوازية الشامية بالسلاح وبالمال وبالتموين إلا بعدد من الضباط غير المدربين عسكرياً. فما إن تحرك هذا "الجيش" من مكة وصولاً إلى " تبوك " حتى وجد نفسه خائر القوى غير قادر على الحركة، يستبد به وبركائبه الجوع، ولا مال لديه ليتدبر الأمر فقعد حيث كان وهو ما أشار مبكراً إلى فشل الثورة الذي يعود في النهاية وقبل كل سيي آخر إلى تخلف البورجوازية الشامية وفقرها الموروث عبر قرون من الاستغلال. 

الانجليز وكانوا قد وعدوا الشريف الحسين بن علي المساعدة على تحقيق أهداف الثورة (رسائل الحسين – مكماهون) أرسلوا ضابط المخابرات توماس لورنس (لورنس العرب) يحمل الذهب لا ليبعث الحياة في جيش الثورة العربية الكبرى فقط بل وليقوده أيضاً. وهكذا أملت البورجوازية الشامية المتخلفة أن ينجز الاستعماريون الانجليز ثورتها ويحققوا أهدافها في إقامة المملكة العرلية المتحدة المستقلة في شرق المتوسط وهو أهم موقع جيوسياسي في العالم!! من يصف اليوم اتفاقية سايكس – بيكو بالقذرة فهو يرى ما أملت فيه البورجوازية الشامية حقاً وواقعاً، وهو ما يدل قطعاً على التخلف السياسي. وما أكد تخلف البورجوازية الشامية هو تصالحها مع الاستعمار حيث تسنم ضباط الثورة الشوام المناصب الأولى في الدول التي حددتها سايكس – بيكو. حتى أبناء الحسين بن علي تصالحوا مع الانجليز عكس والدهم الشريف حسين قائد الثورة الذي لم يصالح فحاربه الانجليز في الحجاز وجردوه من مملكته - ويذكر في هذا السياق أن قائد الثورة الاشتراكية الفتية لينين أرسل طائرتين للدفاع عن الشريف حسين لكن الانجليز تمكنوا منه واعتقلوه ونفوه إلى قبرص حتى آخر أيامه.

النفر العثمانلي في جميع أفاليم الإمبراطورية السلطانية العثمانلية لم يكن يملك أي شيء سوى الاسم وهو يملك اسمه ليس كحق له بل كواجب يرتب عليه بداية الضريبة على الرأس (Poll Tax) فالهواء الذي يستنشقه النفر ليس ملكه بل ملك السلطان وعليه أن يدفع ثمنه. والأرض التي قد يستزرعها هي أرض السلطان وعليه أن أن يدفع عشر محصولها للسطان صاحب الأرض. والسقف الذي يأوي إليه هو ملك السلطان وعليه أن يدفع أجاره. وأغرب ضريبة بين أنواع الضرائب العشرة المكلف بها النفر العثمانلي هي ضريبة المعارف المفروضة لتغطية النفقات على المدارس وأجور المعلمين بينما لم يكن هناك لا مدارس ولا معلمين. يضاف إلى كل هذه الضرائب الباهظة على النفر العثمانلي التجنيد الاجباري فحيثما أشعل السلطان حرباً يتم تسفير الانفار إليها للدفاع عن السلطان – نقول الانفار وليس المواطنين لأن النفر العثمانلي لا وطن له.

يقدر المؤرخون أن مجمل الانتاج في البلدان العربية شرق المتوسط (المملكة العربية المتحدة) على الصعيدين الزراعي والصناعي انخفض ما بين 1516 – 1916 بنسبة 30% وبعضهم يزيد إلى 50%.

تقدم جيش الثورة العربية بقيادة لورنس إلى الشمال يمهد الطريق لاحنلال سوريا الكبرى. في نوفمبر 1917 دخلت جيوش بريطانيا بقيادة الجنرال ألنبي جنوب فلسطين واستكمل احتلال سوريا في العام 1918. في العام 1919 انعقد مؤنمر للصلح لتقرير نتائج الحرب بانهزام دول المراكز وانحلال الامبراطوريات الثلاث، وحضر الؤتمر الأمير فيصل بن الحسين ممثلاً لوالده الشريف حسين قائد الثورة العربية يطالب بإقامة المملكة العربية المتحدة وملكها الحسين بن علي تحقيقاً لوعود بريطانيا كما جاءت في رسائل (الحسين - مكماهون). فرنسا وبريطانيا الدولتان المنتصرتان في الحرب رفضتا مطالب العرب أما روسيا التي كانت قد تحولت إلى الاشتراكية فقد كشفت عن اتفاقية سايكس – بيكو التي عقدها الانجليز والفرنسيين في العا 1916 القاضية باقتسام شرق التوسط بين الدولتين وحرضت العرب على رفضها. ما يسترعي الانتباه هنا هو أن المؤتمر عهد إلى لجنة أميركية النظر في مشروعية مطالب العرب وقضت اللجنة عدة شهور تتحقق من أحوال المنطقة فكان تقريرها أن سكان المنطقة ليسوا بمستوى إدارة الدولة الحديثة غير أن اللجنة أوصت باقامة المملكة العربية المتحدة، مملكة مستقلة لكن تحت الانتداب من قبل عصبة الأمم التي تقرر تشكيلها، وقد أعتبر التقرير لصالح العرب. أخذت بريطانيا وفرنسا ما جاء في التقريرعن أحوال السكان دون التوصية بإقامة المملكة المستقلة، فكان أن اتفقتا في (سان ريمو/إيطاليا) 1920 على إدارة فرنسا لسوريا ولبنان وإدارة إنجلترا لفلسطين وشرق الأردن والعراق. 

بعد طرد الأتراك من المشرق العربي ووقوعة تحت "الاستعمار" الأنجلو – فرنسي. أصبح ولأول مرة في التاريخ وطن ينتسبون إلية عرب المشرق ويدافعون عنه بأرواحهم ؛ فظهر من يعرف باللبناني أو بالسوري أو بالعراقي أو بالأردني والفلسطيني. ولأول مرة ينتظم الأنفار العثمانليون العرب في وحدة اجتماعية اسمها الشعب فيما لم يكن هناك قبلئذٍ جماعة تعرف باسم الشعب. وعرفت شعوب هذه البلدان الدولة الحديثة بكل مؤسساتها ويسلطاتها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. وقامت في هذه البلدان مراكز صحية وتعليمية وانتعشت في هذه الأجواء الحريات الاقتصادية والتجارية وحتى السياسية حيث تشكلت الأحزاب بتبايناتها المختلفة. كل ذلك ما كان ليكون لولا الامبريالية وسايكس – بيكو ؛ وعلى الديماغوجيين المؤدلجين العرب أن يقروا بهذه الحقيقة البلجاء.

والحقيقة البلجاء الأخرى التي لا مراء فيها هي أن البورجوازية الشامية التي قامت بالثورة العربية الكبرى لم تكن بمستوى إقامة الدولة الحديثة، واللجنة الأميركية التي قررت هذا الأمر لم تهمل الحس القومي في عرب المشرق غير أن سياسي عرب المشرق الأغرار الطارئين على العمل السياسي لا يعترفون بهذه الحقيقة المركزية رغم أنها ما تزال قائمة حتى اليوم فبعد خروج الانجليز والفرنسيين من المشرق العربي لم تتكون الدولة الحديثة بكل مؤسساتها الدستورية المستقلة وما زال المشرق العربي في فوضى سياسية عارمة. ههنا فقط تبدو "سايكس – بيكو " ذات مزايا وحسنات جلّى.

التبرير الوحيد للعن سايكس – بيكو هو واقعية الثورة العربية الكبرى وأهلية البورجوازية الشامية لإقامة الدولة المستقلة الحديثة التي بالطبع لم يتوفر منها شيء باستثناء ثيات وإخلاص الشريف حسين للثورة.

لعن الايديولوجيا العربية الدائم للاستعمار وسايكس – بيكو لا يجد ما يستند إليه سوى الديماغوجيا. الاستعمار لم يمكث في المشرق العربي إلا 30 عاما نقله خلالها إلى الحضارة الحديثة ومؤسساتها الدولاتية بينما الكولونيا العثمانية استمرت 400 عاما وانتهت إلى تخلف المشرق مقارنة عما كان عليه قبل أربعة قرون ومع ذلك ينصب السباب واللعن على الاستعمار الانجلو فرنسي وليس العثماني!!

أهم ما أود تنبيه المؤدلجين الديماغوجيين العرب إليه هو أن الدول المعروفة كلاسيكياً بالاستعمارية لم تمارس السياسة الاستعمارية الكلاسيكية على سائر الدول المستعمرة والتابعة ومنها المشرق العربي منذ العام 1921. في ذلك العام المفصلي التاريخي انهزمت جيوش الدول الرأسمالية الاستعمارية (19 جيشاً) أمام البلاشفة الروس فكان أن بدا مؤكداً نجاح الشيوعيين البلاشفة في تفكيك النظام الرأسمالي العالمي. مذ ذاك العام تخلى الرأسماليون عن السياسة الامبريالية الاستغلالية وتحولوا إلى سياسة مقاومة الشيوعية والسياستان لا تتوآمان بالطبع. عملت المخابرات البريطانية على إقامة الفاشية في ايطاليا 1922 والاخوان المسلمين في مصر 1927 والنازية في ألمانيا 1933 كمصدات للشيوعية غير أن هذه المصدات عملت على تفكيك الامبراطورية البريطانية. أما الولايات المتحدة فقد أفقدها حقدها على الشيوعية بعد روزفلت كل توازن عقلي فكان أن نقلت نظام الإنتاج الرأسمالي إلى كوريدورات الثورة الشيوعية في شرق آسيا وانتهت إلى أن تشتري البضائع من شرق أسيا وتفقد كل مقدراتها الرأسمالية وتسقط في انحدار لا قرار له. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في