: آخر تحديث
هاشتك الناس

أسئلة سامي مهدي

47
43
27

لا أعرف على وجه الدقة أخبار صحة الشاعر سامي مهدي، سوى أنه تحت جهاز الأوكسجين، وأنه منذ أشهر أجرى عملية صعبة تكللت بالنجاح، كما اختفت أخباره وكتاباته على صفحته الرسمية الرقمية. لا نعرف ما يجري في السر، فالرجل عادة لا يحب الاستعراض الإعلامي والدعائي، مثلما لا يسمح كبرياءه أن يفتح أبوابه على العطاء القبيح، والتوسل المذل، والهرولة إلى مهانة الاستجداء. فالرجل كما عرفته منذ السبعينات قد أمتطى صهوة الكلمة بنبل وشجاعة وفروسية؛ صاحب موقف لا يتزعزع عن الحق، وصريح مع النفس، لا يهادن ولايتملق، وحروفه حرّة لا تتسكع في مواخير الباطل والاستجداء، يقصف باطلاً ويناصر حقاً.
سامي مهدي، الشاعر والناقد والمثقف، لو كان في بلد آخر يُمجد العالم والأديب والمفكر لكان رمزا وطنياً يُفتخر به في الكتب المدرسية والمحافل الدولية، ويُصنع له التماثيل والجداريات في المنتزهات والميادين. مثله مثل الآخرين من المبدعين العراقيين الكبار الذين رحلوا بصمت أو الذين يعيشون اليوم في بلد عدو الشعر والفن والرواية والبحث العلمي والابتكار والحياة، بلد القمامات السياسية! 
لست هنا بموقف الناقد على شعره ونتاجاته الأدبية، أنما أحاول توصيف حالة لشاعر مهم في شاعريته المبدعة المليئة بالعمق الفكري والوجداني والبناء المحكم، وطلاوة البيان. وتهديمه الأساليب التقليدية والشعاراتية والخطابية. فهذا الشاعر قد أنتج البروتين الشعري المليء بالصور المبهرًة، والفكر العميق، وقوة التقنيات لتوسيع آفاقها الفنية وحمولاتها الدلالية، لتكون ابعد أفقاً، وأكثر حداثة. 
لهذا أقول، وعن قناعة حقيقية بأن هذا الشاعر قد رسم لنفسه اتجاهاً ً شعرياً عميق المعنى والدلالة كان يمكن أن تؤهله دخول بوابة الشعر العالمي باقتدار وثقة لو توفرت له البيئة الموضوعية، لأن ما أنتجه من شعر لا يقل عن الشعراء الذي قرأ لهم أمثال بودلير، مالارميه، فرلين، رامبو، ارغون، بوسكيه، بريفير وغيرهم الذين أثروا في تكوينه الثقافي وثقافته الشعرية. مثلما ساهمت تجربته في فرنسا وتعلم لغتها في إغناء هذه التجربة.
وأنا أعرف أن البعض قد يعترض على هذا الرأي، منطلقاً من عقدة الدونية المتأصلة في النفوس، وثقافة " مطربة الحي لا تطرب “. فنحن بلد يمتلئ بالمبدعين الكبار الذين يستحقون أن يكونوا في لائحة العالمية لو كان بلدهم مهتم بشؤونهم الحياتية ونتاجاتهم، ولديه عقل حضاري للتفاعل والتواصل والتسويق.
هناك تفسيرات ورؤى مختلفة حول كبار الشعراء، وهو أمر طبيعي، بل أراه صحياً اذاً كانت هذه التفسيرات تنطلق من عقل موضوعي هدفه الاستنارة والتقويم والتفسير ،أما التوصيف السطحي المبني على الكراهية والاختلاف الفكري فهو شأن آخر، وقضية ترتبط بوجود أزمة أخلاقيّة في التنشئة الثقافية والقيمية. وسامي مهدي عاش هذه الأجواء المنافقة، وظلمه البعض، لكنه بالمقابل أثبت وجوده كرقم شعري كبير في البيت العراقي والعربي، فكتبت عنه دراسات نقدية لكبار النقاد من العراق والوطن العربي، بمن فيهم من يختلف معهم أو يختلفون معه لسبب أو آخر، وعدد من الرسائل الجامعية.   
لا جدال بأن الشاعر كبير في صناعة القصيدة الحديثة المليئة بالرؤية والحلم والأسئلة الوجودية، ومُتقدة بذاكرة الإنسان والعصر مثلما يمتلك موهبة شعرية متفوقة في البناء الشعري الرصين، والصوّر المبهرة، والخيال الفكري العميق، وجمل إيقاعية متناهية التنظيم والجمال، وتكنيك بارع في صياغة الأسلوب الجديد للشعر بدون الاستطرادات الجانبية، والتطويل والتفريع، مستفيدة من الفنون الثقافية المختلفة وتقنياتها، مما ساهم بقوة في تطوير تقنيات القصيدة الحديثة. 
 أعرف باليقين، هناك تأويلات ومواقف مختلفة ومتناقضة بحق الشاعر، ليس على شعره وموهبته، فهي بمنطق العلم؛ ثابت دون تغيير الثوابت، وإنما على ممارساته كأنسان، ربما تأتي في مقدمة هذه الاعتراضات عند البعض حدته في العلاقات، وغروره بنفسه، وعدم تقبله للنقد. وهناك من يراه بسيطاً ومتواضعاً ومتميزاً بصراحة المواجهة سواء في الحياة أو العمل؛ صراحته مَوجة من صدق المشاعر، ويقين الضمير. 
وبصراحة، ربما هناك الكثير من النخب الثقافية التي لا تطيق التعامل معه، وهناك نمطية صورة حول شخصيته في ظاهر السلوك. وهي صورة محملّة بثقافة مجتمعية لا تقبل الحوار وصدق الرأي، واختلاف العقيدة. أتذكر موقفاً حدث أمامي في مكتبه في الجمهورية، حينما أعترض على مقالة ثقافية لأحد النقاد، وجرى نقاشاً هادئاً بين الاثنين، وبدأت العصبية واضحة على الناقد، وانزعاجاً من الملاحظات، وانتهي الحوار بزعل الناقد، ومغادرة المكتب. وهذه الصورة تذكرتها بعد عام2003 حين بدأ هذا الناقد بحملة شعواء على الشاعر لتسقيطه وتشويه مواقفه، بل وصل الأمر على التحريض بالاعتقال أو القتل.
وبالرغم من كل أنواع الضغوط النفسية، فأن الرجل أصرّ على البقاء مع معشوقته بغداد على الرغم من كل الذي لاقته ولاقاه من مخاطر وتهديدات، لأنه كما يقول  "أنا بغدادي عريق، اعشق بغداد ولا أستطيع العيش خارجها رغم قسوة ظروفنا الداخلية يكفي أنها بغداد بكل عظمتها وبهائها، وأفضل الموت في بغداد على الموت في أي مكان آخر“. 
وهنا أتوقف من اجل الحقيقة، فالرجل لم يسلم من تلميحات سلبية من هنا وهناك، كان البعض في الخارج ممن غادروا العراق بعد عام 2003 يضع الاستفهامات والألغاز أمام سر بقاءه، كانوا يريدونه استشهادياً وسط مدينة كانت شوارعها مليئة بالجثث والدماء، وميليشياتها تعبث بالأمكنة والبشر بالبارود وكواتم الصوت، بينما كان البعض منهم ينعم بآمان الغربة والرأي، والبعض الآخر يعيش في كهوف الخفافيش المظلمة. ومع ذلك ظهرت الحقيقة؛ كتب الشاعر عشرات قصائد المقاومة باسم مستعار في القدس العربي والصحف الأردنية منذ أول أيام الاحتلال.
ومهما اختلفنا واتفقنا في توصيف الشاعر سامي مهدي، الشاعر والأنسان والسياسي، فأننا اليوم آزاء شاعر أعطى الكثير لوطنه ولقراءه، وصنع ثروة من الحروف الجميلة التي أسست وعياً وطنياً وجمالياً في الذاكرة الوطنية، وكذلك في تنمية الذوق الجمالي. لذلك من حقه كمواطن ومبدع أن يتذكره الوطن والناس، خاصة في شيخوخته ومرضه وان نقف معه في محنته الصحية التي يأبى أن يعلنها من باب عزة النفس والكبرياء ونكران الذات.

العراقُ العراقُ
كان حلمنا وأجمل أحلامنا
حتى تخَّطفَه الذئبُ واللصُّ 
واقتسمتُه المخالبُ 
واهتضمته البطون   
                                                               
[email protected]                                                                           


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في