: آخر تحديث

الحرب الروسية وتوجهات السياسة العالمية

41
42
35

رغم أن التغيُّرات الرئيسية في النظام الدولي ليست وليدة لحظة أو إفراز آني لأحداث محددة، بل نتيجة مخاض تطورات تتراكم وتتفاعل على مدى عقود من الزمن، إلا أن بعض الأحدث قد تلعب دور "المُسرِع" لتحولات جذرية في توجهات الدول والتكتلات الكبرى، ولعل الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة حالياً من أكثر الأزمات المعاصرة التي أحدثت ارتدادات عميقة على السياسة الدولية وكشفت عن توجهات جديدة في مناطق عديدة من العالم.

أولاً: أظهرت الحرب مدى الضعف الذي وصلت إليه دول الاتحاد الأوروبي وتحديداً فرنسا وأوروبا، وكشفت عن فداحة الخطأ الذي ارتكبته بانكفائها على نفسها والابتعاد عن لعب دور قيادي في المشهد الدولي والاكتفاء بالدور الاقتصادي والتنموي، إذ أدت الأزمة إلى عودة قوية للدفاع عن أهمية وضرورة وجود قوة ردع كبرى لحماية سيادة أوروبا على الصعيدين الإقليمي والوطني، وهذا ما قاد إلى النقطتين الثانية والثالثة.

ثانياً: إنعاش حلف شمال الأطلسي، حيث أعادت الحرب الحياة للناتو بعد سنوات طويلة من الضعف نتيجة تراجع أهميته لدى العديد من الدول الأوروبية وأحياناً كثيرة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الدرجة التي وصل فيها الأمر إلى طرح موضوع وجود الحلف من حيث المبدأ، إلا أن الحرب الأخيرة أظهرت أن الغرب وتحديداً أوروبا ما زال بحاجة ماسة لمضلة عسكرية تدافع عنها وتضمن أمن الدول التي تشكل الجدار الفاصل بين أوروبا الغربية والاتحاد الروسي مثل بولندا ورومانيا واستونيا ولتوانيا ولاتفيا خاصة وأن الدول الثلاث الأخيرة تعتبر "ساقطة عسكرياً"، ودون حماية الحلف ستصل روسيا إلى أبواب أوروبا الغربية متى أرادت ذلك.

ثالثاً: خروج المانيا من عقدة "التاريخ الدموي"، فقد بقيت المانيا لعقود طويلة حبيسة لعقدة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها، لذلك بقيت بعيدة عن الصراعات العسكرية مع إبقاء الانفاق على الجيش والدفاع في حدوده الدنيا، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية أظهرت الخطأ الفادح الذي ارتكبته المانيا لسنوات طويلة، وهذا ما دفع ها إلى الإعلان عن تغيير جذري في سياستها العسكرية. 

رابعاً: خروج الدول الخليجية من دائرة الفلك الأمريكي بشكل جزئي، إذ وبعد انسحاب واشنطن المفاجئ من أفغانستان وتعاملها مع الملف الإيراني والحرب اليمنية بدأت الدول الخليجية تراجع حسابتها من ناحية مدى الاعتماد على واشنطن لحماية الأمن الخليجي، ولعل الحرب الروسية الأوكرانية أظهرت بوضوح تراجع النفوذ الأمريكي في دول الخليج، إذ أن غالبيتها أخذت دوراً حيادياً إذ لم يكُن متعاطفاً مع روسيا ولو بشكل غير معلن، رغم الضغوط الأمريكية الهائلة وخاصة فيما يتعلق بملف الطاقة، إذ لم تعُد هذه الدول تدور في الفلك الأمريكي بشكل آلي، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الدول الخليجية انقلبت على علاقتها الاستراتيجية مع واشنطن بل ما يجري هو إعلاء لمفهوم المصالح الوطنية وعدم وضع جميع الأوراق في السلة الأمريكية.

خامساً: بروز النزعة الأمريكية نحو السيطرة بغض النظر عن النتائج المترتبة على الحلفاء، فالولايات المتحدة مارست بشكل نوعاً من الخداع لدفع موسكو إلى الحرب لضرب عدة عصافير بحجر واحدة وهي: إضعاف روسيا وإعادتها إلى حجمها المرسوم لها بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي، إرسال رسالة مهمة إلى الصين بأن واشنطن قد تتخلى عن بعض النفوذ الاقتصادي ولكن مسألة زعامة العالم أمر آخر، إعادة أوروبا الغربية إلى الحضيرة الأمريكية بشكل كامل.

بالمحصلة فإن الحرب الروسية الأوكرانية قد تكون ارتداداتها أعمق بكثير من مجرد وقع كييف تحت الاحتلال الروسي، ومحاولة موسكو إيقاف التوسع الغربي في شرق أوروبا، فالحروب تحدد أهدافها ومواعيدها ولكن لا يمكن تحديد نتائجها وتأثيراتها، خاصة إذا ما شعرت موسكو بأنها وضعت في الزاوية وغاصت في الأوكراني فقد يكون لبوتين كلمة أخرى لا يتوقعها أحد، رغم أن كل المؤشرات تقول أن واشنطن قد تكون حققت أهدافها على حساب تدمير أوكرانيا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في