: آخر تحديث

الإغتراب الفكري والاجتماعي في الوطن العربي

65
64
72
مواضيع ذات صلة

يعيش الإنسان المعاصر صدمة اغترابيه مدويّة تحت تأثير الطفرات الهائلة للتغير والتحول في مختلف جوانب الحياة ومكونات الوجود الاجتماعي والثقافي، وقد وصفت هذه التحولات الهائلة في المجتمع الإنساني المعاصر تحت عناوين مثيرة مثل: "ما بعد العولمة، وما بعد الحداثة، وما بعد المعرفة"، وهي عناوين النهايات التي ترمي في جوهرها إلى وصف التقدم الإنساني الهائل في مجال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية.

يعود استخدام مصطلح الاغتراب منهجيا للفيلسوف الألماني "هيغل" الذي اعتبر ان الاغتراب هو قيام الفرد بنفي ذاته عن نفسه كفاعل مؤثر، فيتحول الى مفعول به، فيكون غريبا عن محيطه، ولا ينتهي هذا الاغتراب إلا حين يتماثل الانسان بنفسه مع موضوعه وأهدافه، ومن خلال صنع هوية ثابتة تخصه وحده من خلال عنصر آخر (الوطن، العمل، العقيدة). واعتبر ان للاغتراب وجهان، احدهما سلبي يؤدي الى الانعزال، والآخر إيجابي يوصل الى الابداع. أما "سيغموند فرويد" النمساوي، المختص بدراسة الطب العصبي، ومؤسس علم التحليل النفسي، يصف أوضاع عصره الاغترابية في النصف الأول للقرن الماضي، وكأنه يصف حال الإنسانية اليوم بقوله: "نحن نعيش في زمان شديد الغرابة والتعقيد، حيث عقد التقدم تحالفا أبديا مع النزعة الهمجية والبربرية". 

وها هي معاول التقدم الجديد بآلياته الجديدة ومطارقه الضاربة تسحق الإنسان المعاصر وتشيّئه وتغتر به وتدمر معانيه الأخلاقية والإنسانية. فالتقدم الذي تحققه الإنسانية اليوم يهدف (وكما هو حاله في الأمس) إلى تحقيق الربح والمال والسيطرة والقوة والهيمنة والمنافسة. وفي هذه الدائرة من طغيان الوسائل المادية النفعية على الغايات الإنسانية يتحول الإنسان إلى وقود بشري، يحترق ويُحرق في مواقد الرأسمالية المعاصرة أو الليبرالية الجديدة بعناصر قوتها وجبروتها وهيمنتها، وفي هذا الزمن الليبرالي الجديد لعولمة طاغية ترتفع قيمة كل الأشياء وتنخفض قيمة الإنسان وحده.

المجتمعات الإنسانية تواجه في حقيقة الأمر صدمة ثقافة اغترابية تستهدف سمو القيم الإنسانية، ومع دورة هذا الامتداد المدمر لثقافة الاغتراب يجد الإنسان العربي المعاصر نفسه في دوامة قهر ثقافي متفرد يتميز بطابع التعقيد والعمق والازدواج. وإذا كان الإنسان الغربي يعيش ثقافة اغترابيه واحدة، تتمثل في ثقافة الحداثة والعولمة وما بعدها، فإن الإنسان العربي يعيش في ظل ثقافتين اغترابيتين، حيث يجد نفسه بين مطرقة الحداثة وسندان الثقافة التقليدية، بما تتميز به هذه الثقافة من قدرة على ممارسة فعل الاستلاب والاغتراب. 
الثقافة التقليدية العربية السائدة - بمعناها الأنثروبولوجي - تحولت إلى نموذج فريد لثقافة التخلف بكل ما يعنيه التخلف الثقافي والفكري من قدرة على مصادرة الوعي والحرية وإخضاع الإنسان، وليس مفارقا للحقيقة قولنا في هذا الصدد بأن هذه الثقافة تفرض على منتسبيها فروض الطاعة والخضوع والاستسلام، وتكتنز في مضامينها ما حملنا إياه الماضي المظلم من خرافات وتعصب وتسلط وأوهام. وبعبارة أخرى غرست الثقافة التقليدية فينا قيم الخضوع للأمر الواقع، واتسمت بالنزعة القدرية الجامدة، ورسخت روح القبول الصاغر بما هو قائم، وعملت على تجريد الفرد من روح المبادرة، وتغييب حس المسؤولية، ومن ثم إضفاء الطابع القدسي على معظم جوانب الحياة، وترسيخ النزعة السلفية بأخطر مضامينها، وأخيرا الحضور المكثف للأبوية وتغييب الرؤية النقدية.

ثقافتنا التقليدية، التي يفترض بها صون الهوية والكرامة الإنسانية ضد اغتراب العولمة، تتصف بالعجز، وتضع الإنسان العربي في حالة سلبية دائمة، وغيبوبة نقدية فائقة الوصف. إنها ثقافة اغترابية بامتياز، حيث يتميز الإنسان العربي المعاصر بالسلبية والشعور بالدونية والعجز والتواكل والانغلاق والتعصب. وليس من المبالغة القول بأن الإنسان العربي، في ظل القهر السياسي والاجتماعي والأخلاقي، قد تحول إلى كيان مفرغ من إنسانيته في ظل هذه الثقافة التقليدية التي تجرد الإنسان من قدرته على الحركة والانطلاق. والدليل القاطع على هذا الموت الروحي الذي نعيشه اليوم يتمثل في مواقف الشعوب العربية إزاء قضاياها الوطنية ومصيرها الإنساني، إذ يفقد الإنسان العربي قدرته على المسائلة والمحاسبة فيما يتعلق بقضاياه المصيرية كنتيجة طبيعة لوجوده تحت ضغط ثقافتين استلابيتين متناقضتين تجعله غير قادر على المشاركة الإيجابية في الأحداث المصيرية الكبرى.

وهذا ما نراه اليوم أمام العين وما يقع عليه البصر، ففي ظل آليات الهيمنة العالمية تحولت الثقافة الاستهلاكية إلى آلية فاعلة لوضع الإنسان العربي في دائرة الاغتراب، ومن ثم تعليب قناعاته الدينية والأيديولوجية والفكرية. وهكذا لعبت الثقافة العالمية الجديدة دورا كبيرا في تدمير البنى التقليدية للمجتمعات العربية وحولت الإنسان إلى قيمة استهلاكية. الناس الذين يصابون بإغتراب عن انفسهم ومجتمعهم، يكرهون العمل والإنتاج ويفقدون الإبداع، خاصة الشريحة المثقفة، نتيجة الإحساس بأن مجتمعهم لا يقيم للإبداع قيمة، ولا يهتم بالطاقات الخلاقة، وان غاية السلطة السياسية هي تحويل الانسان الى مجرد ماكينة تؤدي وظيفة محددة وعملا معينا، ومن دون أية اعتراضات بعد ان يتم تفريغ الفرد من الجوانب الروحية والفكرية وقتل شغفه. 

قد يؤدي الشعور بالاغتراب الى الانتحار، خاصة لدى المبدعين الذين لا يمكنهم الانصياع ولا التكيف، كما حصل مع العديد من الأسماء في الدول الغربية والعربية، منهم الكاتب الأمريكي "أرنست همنغواي الذي انتحر في العام 1962م، والشاعر اللبناني "خليل حاوي" في العام 1982م، والممثل الأمريكي الحائز على جائزة الأوسكار "روبن ويليامز" في العام 2014م وآخرون. فيما يسعى آخرون لاستعادة مكانتهم من خلال التمرد والثورة على ما هو سائد في المجتمع. هذا القهر والقمع والاستبداد الذي تتسم به غالبية النظم السياسية والاجتماعية العربية، هو احد اهم أسباب التفكك والانحلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني في بلداننا العربية، ويشكل خطرا يهدد الوحدة المجتمعية، ويعيق الاتصال الحضاري والإنساني مع بيئات أخرى متنوعة. 

آخر الكلام: في كتابه القيم" الجهاد ضد السوق الكونية" يرى عالم السياسة والكاتب الأمريكي "بنجامين باربر": بأن الآثار التفكيكية للسوق الكونية ستؤدي إلى مضاعفات وردود فعل عنيفة في داخل كل ثقافة. ويضيف قائلا: إنني أتنبأ بأن المقاومة ستهزم (بضم التاء) في النهاية أمام السوق الكونية. وهذا التنبؤ يستند إلى القدرة الهائلة للثقافة الكونية على التغلب على كل ما يجابهها من ضيق الأفق الفكري ومحاولات الإبقاء على الكيانات الصغيرة. 
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي