: آخر تحديث

"المحللون الجدد" وخراب الاعلام

85
86
80
مواضيع ذات صلة

إن تشابك مصالح الدول الكبرى الفاعلة في تحديد السياسيات الدولية، وصراعات قوى الدول الإقليمية في الشرق الأوسط، علاوة على الأزمات الداخلية الخاصة بكل دولة على حدا، حوّل بعض وسائل الإعلام العالمي والمحلي إلى ساحة مفتوحة لفوضى "التسريبات" التي غالبًا ما تتنكر لها الجهات المعنية في مواقفها الرسمية المعلنة . 

وفي وقت يتروى به العقلاء من الاعلاميين المحترفين في ابداء أرائهم ويتريثون في الادلاء بوجهات نظرهم، نجد آخرين ينساقون إلى التسرع في الجزم عبر الخروج اليومي على الجمهور للإدلاء "بتحليلات" فورية واتهامات حاسمة بشكلٍ يصبح المراقب الحليم فيه حيرانًا.

ولسنا هنا في إطار حصر الموضوع بقضية واحدة شغلت الرأي العالمي في الأسابيع الأخيرة وهي "اختفاء الكاتب جمال خاشقجي"، ولكن هذه القضية كشفت زيف الموضوعية و وقوع بعض كبرى وسائل الاعلام، بما فيها العالمية في فخ التسرع دون التأكد الفعلي من مصداقية المصادر، الأمر الذي دفع بعضها إلى الاعتذار عما تورطت في نشره فيما بعد . 

وفي هذا السياق لا بد من التوقف عند نقاط جوهرية عدّة، كشفت خراب الإعلام المحترف في عصر انفلات المعلومات، الذي تحول من مهمة تقديم المعلومة الموثقة إلى استغلال القضايا الانسانية لممارسة هواياته كمُحاكم لإدانة هذا الطرف أو ذاك، وتحولت وسائله كأفخاخ نُصِبَت ليقع المتابع في شراكها، حيث يتم التسويق لموضوع في إطار الدفاع عن قضية أو التهجم على طرف بصورة مدمرة للجميع  . 

النقطة الأولى هي الإصطفائية في عرض الأخبار ونشرها، حيث يتحول "الخبر غير الموثق " إلى خبر رئيسي أول ويُسلط من خلاله الضوء على معلومة لم يتم التأكد من صحتها بعد ، لتصبح محورًا أساسيا في النشرة الإخبارية، فيما تغيب كبرى القضايا الحاسمة، ويتحول خبر الحرب أو الكوارث الطبيعية التي قضت على آلاف البشر الى مجرد خبر ثانوي أو هامشي. وهذا يطرح تساؤلا جوهريا عن مهمة تلك الوسائل في خدمة الإنسانية  حيث أضحت أهدافها منوطة بتسويق الأجندات وتصفية الحسابات عبر الاستئصال الرمزي للطرف الآخر أوالتصفية المعنوية له .

النقطة المحورية الثانية هي الادعاء بامتلاك "الحقائق"، حيث تعمل بعض وسائل الاعلام على تقديم "المعلومة الغير موثقة " على أنها "حقيقة مبرمة " مع ما يتضمن ذلك من انتهاك لحقوق الأخرين وخصوصيتهم والإساءة إليهم .

النقطة الثالثة هي ظاهرة تفشي "المحللون الجدد"، حيث تعمل بعض وسائل الاعلام على استضافة انتقائية لشخص تعتبره محللا سياسيا أو خبيرًا استراتيجيًا للتعليق على "معلومات" والادلاء بالتوقعات المحتملة في قضايا لم يجزم بها بعد ، وبدلا من يكتفي هذا الشخص بالادلاء "بوجهة نظر" يُفترض أن تكون محايدة، فإنه يعمد إلى تقديم الأحكام الجازمة والآراء القطعية الحاسمة، بل والأخطر منذلك، أن بعض هؤلاء أصبح  يحيك الروايات والحكايات ويروج شَائعات ويبني عليها مواقف، وكأنه شاهد عيان على كل شاردة و عالمًا في كل واردة . في حين أنه من شروط الأسياسية لاستضافة أي محلل هي تَحلّيه بقدر من الموضوعية وعدم الجزم في الفرضيات والاكتفاء بشرح وجهة نظره  وفق معطيات واضحة . 

إن ما تزرعه بعض الفضائيات في العقول من صور ومفاهيم في النفوس عبر الهواجس والتهويمات والشتائم سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، لأنه لا يولد إلا التوترات ومزيد من الكراهية . ولعل وسائل "الاعلام الحرة العريقة" مُطالبة وأكثر من أي وقت مضى إلى تجديد أشكال المصداقية والمشروعية، وتطوير البنى المعرفية والسياسية،سواء لجهة عرض المضمون الخبري أو وجهته، وبدءًا من المفاهيم والمصطلحات وصولا إلى طريقة التعامل مع الأحداث التي تطلب قدر من الحكمة والتروي في التعاملمعها،  مما قد يفتح أفقا مغايرًا لما نشهده من إعلام التهجم و الاعلام المضاد له الذي لا يرقى بدوره إلى المستوى المطلوب ، حيث ينجر الشقيْن إلى مسرحية يتم فيها تبادلا لاتهامات.  

على أية حال إن انتقاد الاعلام وأدائه، لا ينبغي أن ينحى بحال من الأحوال إلى الحدّ من الحريات، إذ أن بعض السلطات- لاسيما في الدول العربية -  تسعى إلى استغلال أخطاء الإعلاميين للتضييق على الحريات وجعل ذلك حجة لقمع الصحافة، بل إن شفافية السلطات السياسية واطلاق حرية الإعلام من شأنها أن تؤسس لإعلام حرّ منطلق قادرعلى التعامل بموضوعية مع تحديات العصر بعيدًا عن كل الاصطفافات. 

أخيرا، فهل السلطة الخامسة "سلطة الاعلام " التي أضحت منفلتة في الزمن الرقمي الكوكبي قادرة على إدارة القضايا المحقة والعادلة بعيدًا عن الاستهلاك الفضائحي" لينحط الخطاب إلى درجة الاسفاف؟ وهل يمكن أن يمارس الصحفيون والإعلاميون عملهم عبر إدارة عقلانية منتجة لصيغ مبتكرة بعيدًا عن تداول "تسريبات" غير يقينية تسعى لإثارة المشاهد وحشره في زاوية رأي أو ادخاله فيخرم فرضيات قد تصيب أو تخيب؟!

نعم، عندما يعي القيمون على الإعلام وخبرائه أن الهدف النبيل لا بد وأن يكون بنَّاءًا ومفيدًا يتيح للمتابع الرؤية الواضحة لمجريات الأحداث بقدر كبير من الموضوعية والاحترافية ويسعى إلى ترسيخ التبادل الفاعل لعيش الأمم على أسس حضارية ومدنية، والتفاعل بمنطق وسطي علائقي يؤسس للسلم ، فعندها سيسعى لاعتماد استراتيجية حوار ناجح وفعال لبناء مثمر لا تخريب مستمر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي