ذهب أتباع التفسير الحرفي إلى إبعاد المسار القرآني عن وجهه الحقيقي فتراهم تارة ينسبون الآيات التي توجه الأنبياء نحو السلوك القويم أو تلومهم إلى قاعدة إياك أعني واسمعي يا جارة، وتارة أخرى يوهمون الآخرين بأن للقرآن باطن لا يعلم به إلا الله والراسخون في العلم حسب ظنهم، وبذلك يكون اللوم الموجه للأنبياء قد وقع تحت هذا المسمى وظلت العصمة على ما هي عليه دون أن يطرأ عليها ما يشوبها من الإضافاتاللاحقة، وربما يكون هذا الصنف أقل تأثيراً من الصنف الآخر الذي أراد أن يفرق أتباعه بين مقام النبوة ومقام الرسالة من أجل القدح بشخص النبي، ونظراً إلى ما ذهبوا إليه تظل الرسالة بعيدة عن اللوم أو التوجيه في الوقت الذي يقع العبء على مقام النبوة، دون أن يأتي هؤلاء بحجة بينة تدل على شرعية المنحى الجديد الذي ساروا عليه، والحقيقة التي لا تقبل اللبس أن المقامين لا يختلفان فهما بنفس المنزلة، وكما وقع اللوم والتوجيه في مقام النبوة نراه سارباً في مقام الرسالة، ومن الأمثلة على ما نحن فيه قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) المائدة 67. والآية تبين واجب الرسول في التبليغ ولا يخفى ما فيها من الحدة والتهديد، وتؤكد أن عدم التبليغ في هذه المرحلة يؤدي إلى إلغاء الرسالة من أولها إلى وقت نزول هذه الآية الواقعة في سورة المائدة وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم، ويعضد هذا المعنى قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم من الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة 41.
فإن قيل: لحن الآية الثانية لا يرتبط بالتهديد المباشر كما في الآية الأولى فكيف الجمع؟ أقول: سواء ارتبط المعنى الوارد في الآية الثانية بالتهديد أم لم يرتبط، فإن النكتة ظاهرة في ما خفي على النبي من أفعال أهل الكتاب وهذا ظاهر في مقام الرسالة كما في الآية الأولى، وأنت خبير بأن تعريف العصمة لدى من ادعى التفريق بين المقامين يأبى الانطباق على ما ذكر في الآيتين، سواء أكان السياق الأول الذي يشير إلى التهديد أو السياق الثاني الذي يبين ما خفي على النبي من أفعال أهل الكتاب كما قدمنا، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم) المؤمنون 51. وكما ترى فإن الآية قد أخذت بالترقي من الأمر الصادر بالأكل من الطيبات وهو امتنان من الله تعالى عليهم إلى توجيههم بأن يعملوا صالحاً ثم ختمت بالتحذير من مخالفة أمره جل شأنه، وذلك في قوله: (إني بما تعملون عليم) المؤمنون 51. ومما تقدم يظهر أن مقام الرسالة قابل للتهديد والتوجيه كما هو الحال في مقام النبوة دون فرق يذكر، وهذا المفهوم يلزم القائلين بالتفريق أن يعودوا إلى نبع القرآن الصافي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يخفى على المتأمل أن ما ذهب إليه أولئك الناس لا يخرج عن مسمى القدح بشخص النبي (ص) وبالتالي يسري هذا المعنى على جميع الأنبياء لأجل تبديل كلمات الله تعالى وأنى لهم تغطية الشمس.
من هنا نستطيع القول إن النبي معصوم في شخصه وفي رسالته بلا أدنى ريب، وأما النهي الصادر إليه من الحق سبحانه عن اتباع الهوى فليس فيه ما يقتضي إسقاط التكليفعنه كون العصمة لا توجب سلب اختياره وعدم الأخذ بهذا الاتجاه يجعل الفرق ظاهراً بين المعصوم وغيره من حيث تحقق الواجب وبذلك تصبح الطاعة كالمعصية، وهذا المفهوم يتفرق في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ليشمل جميع الرسل بعد أن علمت أن ليس هناك ما يدعو إلى التفريق بين الرسالة والنبوة، ومن مصاديق ذلك قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص 26. ومنه خطابه جلت قدرته إلى موسى في قوله: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) طه 16. وفي هذه الآية نكتة عظيمة في توجيه موسى إلى عدم السير خلف من لا يؤمن بالساعة واتبع هواه، ثم بعد ذلك يتفرع المعنى على أمر الرسالة في الآية اللاحقة وما يليها ابتداء من قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى) طه 17.وبناء على ما قدمنا يظهر السر في قوله تعالى: (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون) الأنعام 150. وكذا قوله: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) الجاثية 18.
وبهذا نعلم أن آية البحث التي سنتعرض إلى تفسيرها لا تختلف في مفهومها عن الآيات السابقة التي أشرنا إليها، وليس فيها ما يقدح بعصمة النبي (ص) سواء في مقام النبوة أو مقام الرسالة لمن يود التفريق بين المقامين، وسيمر عليك هذا المعنى بصورة أكثر جلاء.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) البقرة 120.يتفق جميع أهل الباطل في دعوة الأنبياء إلى اتباع ملتهم، وتكون الدعوة مصحوبة بالتهديد المتفرع على الرجم أو إخراجهم من ديارهم إن لم يستجيبوا لدعوتهم، واجتمع الأمران في شعيب كما يظهر ذلك من قوله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) هود 91. وكذا قوله: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين) الأعراف 88. وفي نوح قال تعالى حكاية عن قومه: (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) الشعراء 116.
والآيات آنفة الذكر تفيد أن عدم استجابة المرسل إليهم للرسل يجعل الأمر مهيئاً للنبي (ص) في ما يصدر إليه من تهديد سواء كان من المشركين أو أهل الكتاب لأجل أن يتجنب اتباع أهواءهم، ويلاحظ في الآية اختفاء أثر المشركين من السياق والاهتمام بأمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وذلك كون تأثيرهم السلبي في رسالة النبي يأخذ الطابع التعصبي لملتهم الباطلة، ومن هنا نرى كيف فصل القرآن الكريم بين الفريقين بـ (ولا) وهذا يدل على أن كل طائفة كانت تدعو الرسول (ص) إلى اتباع ملتهم والإعراض عن ملة الطائفة الأخرى، وهذا الغرور السافر أدى بكل طائفة منهم أن تنسب نفسها للأنبياء أو تجعل الأنبياء أتباع لهم دون وجه حق، وقد أشار سبحانه إلى هذه الفرية بقوله: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) البقرة 140. وهذا التوبيخ يفيد أن جميع الأنبياء الذين ذكروا في الآية كانوا على ملة الحق ولم يكونوا يهوداً أو نصارى، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) آل عمران 65. ثم بعد ذلك أظهر تعالى النتيجة بقوله: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) آل عمران 67.
ونرى في آية البحث كيف أمر الله تعالى نبيه (ص) بالرد عليهم بقوله: (قل إن هدى الله هو الهدى) وهذا هو السبيل القويم الذي يجب أن يتبع كون لا هدى إلا هداه سبحانه، ثم ختم آية البحث بقوله: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) وفي الآية دليل على أن عدم تحقق العصيان لا يمنع من الخطاب بالوعيد كما أسلفنا، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) الزمر 65.
من كتابي: السلطان في تفسير القرآن
عبدالله بدر اسكندر