عبدالحق عزوزي
ما زلنا نتحدث عن ملتقى «الاتحاد» السنوي الذي خاض هذه السنة في موضوع له أبعاد استراتيجية كثيرة، وتستلزم أجوبة استراتيجية رائدة، ويمكن التأكيد أن أية منظومة إقليمية تقوم على الشراكة وعلى المصير المشترك، وعلى تشخيص المشكلات وتجنبها قبل وقوعها أو مواجهتها استراتيجياً بما يضمن ترجمة الأغراض إلى تأثيرات تشكل البيئة الاستراتيجية على النحو الأفضل، ضامنة المرونة والقدرة على التكيف والتصدي الاستراتيجي للأعداء والمناوئين، وواضعة محددات الوصول إلى النتائج المرجوة. وسبق وأن قلنا إن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لهما من السمات الاستراتيجية ما يمكنها من أن تظلا دولتين محوريتين في المنطقة تقودان بحرفية ودراية سفينة التكتل للوصول بكل المنطقة إلى بر الأمان... ويمكننا أن نتوقف أمام صلابة الثنائي الألماني- الفرنسي ودوره في عملية البناء هذه على المستوى الأوروبي؟ فانتخاب البرلمان الأوروبي بالاقتراع العام المباشر وخلق نظام الوحدة الأوروبية سنة 1979 كانا بتحريك من الزعيمين الألماني هيلموت شميت والفرنسي فاليري جيسكار دستان؛ وبعد ذلك جاء الثنائي هيلموت كول وفرانسوا ميتران اللذان حققا المستحيل للاتحاد الأوروبي (خلقا السوق المشتركة، واتفاقية شينغن، والعملة المشتركة، والسياسة الخارجية والدفاع المشترك، والمواطنة الأوروبية)، كما أن الثنائي جاك شيراك وجيراد شرودر خلق أيضاً نظام السياسة الفلاحية الموحدة، ناهيك عما قام به ساركوزي ومن بعده فرانسوا هولاند مع المستشارة الألمانية ميركل لإنقاذ العملة الأوروبية من الانهيار وإنقاذ اليونان من الإفلاس.
هذا من جانب.
أما من الناحية العسكرية فقد تطرقت في تعقيبي في الملتقى إلى أن قوة أي حلف ليس بقوة عدد جيوشه المنتشرة فحسب، وإنما بقوة تحالف دوله، وبقوة ونوعية الأسلحة المستعملة وخبرته الاستراتيجية والاستخباراتية والتنظيمية والتدخلية. فلم نعد في زمن الحروب القديمة، حيث تحسب قوة العدو بالكم وإنما بالكيف وقوة ودقة السلاح المستعمل... ويكفي أن نستحضر تجربة الحلف الأطلسي لفهم ذلك جيداً. ففي سنة 2008 كان مجموع القوات العسكرية التي كانت منتشرة مباشرة تحت مظلة الحلف الأطلسي 168000 عسكري، وانتقص العدد بعد ذلك، وهذه الاستراتيجية قائمة على التقليل من عدد الجيوش والرفع من قوة التدخل ودقة التخطيط. وقد أعطيت للمسؤول الثاني في الحلف صفة القائد الأعلى المكلف بالتغيير (SACT)، حيث مقره متواجد ليس في بروكسل وإنما في «نورفولك» بالولايات المتحدة الأميركية.
ومن هنا فإن أي حلف عسكري، ولو بقوات قليلة، يمكن أن يحمي بلداناً ذات مساحات جغرافية واسعة ومتباعدة (أوروبا وأميركا فيما يتعلق بدول الحلف الأطلسي)، وقد لا يعني الحلف البتة استعمال القوة بطريقة أوتوماتيكية لتحقيق النتائج المرجوة، وإنما تواجده ينبغي أن يحقق استراتيجية ردعية وحمائية تثبط الأعداء عن التدخل العسكري... بمعنى أن على الحلف العسكري أن يكون له حضور دبلوماسي في توازنات الأمم، وأن يستعمل الأدوات التفاوضية التي تمنحها له القوة العسكرية ولكن بأساليب مدنية، ومن هنا ضرورة الحكمة الدبلوماسية والتفاوضية في أي تحالف عسكري، وهذا هو بيت القصيد.
ونحن نتحدث عن هذا الموضوع، لا أريد أيضاً أن يفهم كلامي على أن كل دولة يتعين ألا يكون لها من الردع والقوة العسكرية ما يكفيها، بل العكس من ذلك.. فلم تبلغ الأخطار الخارجية المحتملة ضد دول المنطقة مثل ما تواجهه اليوم نتيجة سببين أساسيين: الخطر الإيراني المتزايد، وتراجع الالتزام الأميركي بالدفاع عنها. وليس بوسع دول الخليج سوى تقوية كياناتها الدفاعية، ليس فقط بشراء المزيد من السلاح ولكن أيضاً بتحسين الأداء العسكري، وهو ما رأيناه في تجربة الحلف الأطلسي، والتفوق العسكري ليس مجرد صفقات سلاح، وإنما هو ذكاء استراتيجي ويقظة وفن وعلم في عالم يطبعه المجهول والفوضى واللايقين.