: آخر تحديث

متنبي مصر‎

18
17
14

ألف عام أو تزيد والناس يتناشدون أشعار أبي الطيب المتنبي، ولا يزال "يسهر الخلق جراها ويختصم"، فمن مستجيد، ومن متمثل، ومن مستدرك، ومن عائب.

وليختلف الرأي في المتنبي، وليكن لكل مذهبه، لكني ما أشك أن من يُحسن العربية، ويعرف سنة العرب في أشعارها ثم ينظر في شعر أبي الطيب، فهو مُفاد حكمة بليغة، ومعنى شريفاً في أجمل تنظيم، وأبهى تنضيد، ومع ذلك فليس كل ديوانه على درجة سواء، وإنما لكل قارئ أو ناقد مذهبه فيما يستجيده أو يستدركه على المتنبي، ولكل حكمه في الطبقة التي يُنزل عندها كل قصيدة أو كل فصل من فصول ديوانه.

ولئن كان المتنبي لا ينفك اسمه مقروناً بسيفياته الحمدانية، حتى صارت هي المقدَّمة من شعره (وإنها حقاً لأفخمه وأجزله)، فإنَّ هذا الفصل عندي من ديوانه أنزله في المنزلة الثانية بعد (مصرياته) التي قالها بمصر، أو قالها عن حالته بمصر بُعيد خروجه منها، فلئن كانت سيفياته الحلبية هي الأرفع صلصلة، والأعلى جلجلة، فمصرياته (عندي) هي الأَمَسُّ بالنفس، وإن كانت الأقل عدداً، والأرق نظماً، ولست أقول ذلك تعصباً لمصريتي، بل أقوله لمزية في شعره المصري فاقت فيه سائر شعره، ألا وهي (تعرفه إلى نفسه).

فقد كانت للمتنبي نفس أضلها طول ترحاله، وبعيد أسفاره، فلم يتحصل عليها إلا زمن إقامته بمصر، إذ أتيح له حينئذ أن يتعرف إليها، ويجالسها، ويؤنسها ببعض شعره الذي ذهب بمعظمه الغرباء!

فلقد اختلفت علي المتنبي بمصر حالات شتى من قلق وأرق، وغربة ومرض، وحبس ويأس، فلم يكن له من جليس ولا أنيس ولا طبيب يومئذ إلا قصائد يبثهن حزنه، وشجوه، وعزاءه في تضاعيف ما يقول من المدح أو الرثاء أو الهجاء.

فأبو الطيب قصد مصر ليس طامعاً في فرس مُطَهَّم يُهدي إليه، ولا كسوة حسنة تُخلع عليه، ولا دينار يُجزي به، فكل ذلك أصاب منه، بل جاء مؤملاً حكماً ومجداً يكبت به شانئيه ومبغضيه ومتنقصيه، فليس أقل من أن تُخلع عليه إمارة إقليم من أقاليم مصر، وأن يشارك الأستاذَ كافورَ الحكمَ، فجعل يُعَرِّض بحاجته عند كافور:

وهل نافعي أن تُرفع الحجب بيننا

ودون الذي أملت منك حجاب

وفي النفس حاجات وفيك فطانة

سكوتي بيان عندها وخطاب

 

لكن كافور معرض عن تلك الحاجات، متغافل عن آمال أبي الطيب، فهو يسمع القصيدة ويثيبه عليها كالشأن مع غيره من الشعراء، فهنالك خابت آمال المتنبي، وأخفق سعيه، فذهب يعزي نفسه الكسيفة:

لو كان ذا الآكل أزوادنا 

ضيفاً لأوسعناه إحسانا

لكننا في العين أضيافه

يوسعنا زوراً وبهتانا

فليته خلي لنا طرقنا

أعانه الله وإيانا

وكافور لم يكتف برد المتنبي عن آماله مخذولاً محزوناً، بل جعله في (إقامة جبرية) وبث عليه العيون والرقباء، فتألبت علي شاعرنا حينئذ بمصر الغربة، والحبس، والمرض، فلم يكن له من دواء يومئذ يتطبب به، ويرد عنه بنات دهره اللائي اجتمعن عليه إلا شعره، فكانت فريدته (مَلُومُكُما.....)، وفيها شرع يصف حال نفسه وبدنه:

قليل عائدي سقم فؤادي

كثير حاسدي صعب مرامى

عليل الجسم ممتنع القيام

شديد السكر من غير المدام

فلما جاءه الطبيب لم يجد المتنبي في طبه علماً بحالته، فذهب يستدرك عليه، ويعلمه ما غاب عنه:

يقول لي الطبيب أكلت شيئا

وداؤك في شرابك والطعام

وما في طبه أني جواد

أضر بجسمه طول الجمام

فأُمْسِك لا يُطال له فيرعى

ولا هو في العليق ولا اللجام

فهو يبين للطبيب أن مرض جسمه إنما هو لطول حبسه، وخيبة رجاءه.

والمتنبي في مصر حين يهجو حاكمها كافور فهجاؤه أقرب إلى تلهية نفسه وتسليتها، وتأنيبها عما لقيه من الخذلان والرد، فيقول:

أُريك الرضى لو أخفت النفس خافيا

وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا

أَمَيْنًا وإخلافاً وغدراً وخسة

وجبناً؛ أشخصاً لحت لي أم مخازيا

تظن ابتساماتي رجاء وغبطة

وما أنا إلا ضاحك من رجائيا

وإنه أحياناً ما كان في هجوه يأخذ نفسه مع كافور بالهجو والتوبيخ والتقريع، ويجلدها ببعض أبياته لأنها عرضته للهوان، ففي بعضها يقول ناعتا نفسه بأنه أحمق من العبد والأَمَة:

أنوك من عبد ومن عرسه

من حَكَّم العبد علي نفسه

وفي آخر يهجو فيلطم نفسه موبخاً نادماً:

ما كنت أحسبني أحيا إلي زمن

يسىء بي فيه عبد وهو محمود

وحين تخرَّم الموت أحد كرام مصر الذين كانت بينه وبين المتنبي صلة حسنة، رثاه صاحبنا، وهو في مرثيته إنما ينعي إلى نفسه ذهاب الأخلاق الفاضلة إذ رحل هذا السيد، وبقاء ضدها ببقاء آخرين، ولعله كان يلمز كافور ومن حوله:

أبقيت أكذب كاذب أبقيته

وأخذت أصدق من يقول ويسمع

فإن لم يكن مدح ولا هجو ولا رثاء، فهذا هو ينشد شعراً لنفسه في غدر الدنيا وتقلب الحال:

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا

وعناهم من شأنه ما عنانا

وتولوا بغصة كلهم منه

وإن سرَّ بعضهم أحيانا

فمن أجل هذا ومثله قدَّمْت مصريات المتنبي علي ما سواها، فإنَّ الشاعر أو الأديب متى اجتمعت عليه تلك الحالات والوجدانات التي اجتمعت على المتنبي في مصر من طول الحبس، وخيبة الرجاء، والغربة والمرض، فإنه حينئذ يصير قوله (ابن رَحِمِه)، ويصير هو أُمًّا له يغذوه ويرعاه ويعني به ما لا يعني بغيره من (شعر الأرحام البعيدة) الذي ينشئه في ممدوحيه وإن عظموا، فإذا ما كان القول شعرا أو نثرا (ابن رَحِم) لقائله نظم من الشعر أجوده، ونثر من القول أبلغه؛ ذلك أنه خامر قلبه، وخبره بذات نفسه، ولم يُلقِهِ رغباً ولا رهباً، بل تمخضه تمخضاً على شوق وترقب ليقضي حاجة معذبة تتردد في صدره، فهذا يكون شعره أصدق وأَمَسَّ بالقلوب من غيره الذي يصطنع اصطناعاً، ويزين تزيينا لتُنال به الرغائب والجوائز.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف