: آخر تحديث

الظلم والاستبداد في القارة السوداء

69
57
59
مواضيع ذات صلة

أحياناً تكون الروايات أفضل مرجع لفهم الأوضاع السياسية لبلد ما.  وهذا ما تتصف به رواية الكاتب الأمريكي راسل بانكس "" الأمريكية العزيزة ".وكان راسل بانكس الولود عام 1940 قد انتمى إلى اليسارالأمريكي في الستينات من القرن الماضي.  هذا اليسار الذي ناضل ببسالة ضدّ السّياسة الإمبرياليّة الأمريكيةّة، ونددّبالحرب في فيتنام.  وبشجاعة وجرأة، واجهت  وخلال الجولات التي قام بها في العديد من البلدان الإفريقية خلال السبعينات، والثمانينات من القرن الماضي، اهتم راسل بانكس بليبيريا، البلد الذي صنعته الولايات المتحدة الأمريكية.  لم يكن اسم ليبيريا موجودا على خارطة القارّة السّوداء.  ولا أحد يدري لمَ لمْ تعرْها الإمبراطوريّات الإستعماريّة الكبيرة  وحدهم المبشرون المسيحيون القادمون بالخصوص من "العالم" الجديد "تجرؤوا على التوغل في مجاهل ذلك البلد المتوحش التي تنتشر على أراضيه الغابات الكثيفة، وفيه تكثر أشجار المنغروف، وفيها تحصد حمى المستنقعات سكانها البدائيين الذين يعيشون منقطعين عن العالم انقطاعا كليا.
 والواضح أن حكومة واشنطن أولت عناية كبيرة للتقارير التي كان المبشرون يعدونها عن ذلك البلد المجهول، والذي يزخر بالثروات الطبيعية.  كما انه مفتوح على المحيط الأطلسي.  لذلك سارعت بإرسال عشرات الآلاف من السود الذي حصلوا على شيء من التعليم، واعتنقوا الديانة المسيحية قائلة لهم "هذه أرض أجدادكم.  .  .  وعليكم أن تعتنوا بها وفيها تنشرون الحضارة! ".  ومنذ البداية، وجد المستوطنون الزنوج في تلك البلاد التي أطلقوا عليها اسم "ليبيريا" ما يروق لهم، وينسيهم مظالم الإستعباد التي عاشوها، وعاشهم أجدادهم في "العام الجديد".  وعلى المدينة التي أنشأوها أطلقوا اسم "منروفيا" تبركا بجيمس مونرو، الرئيس الأمريكي الخامس الذي كان من المدافعين عن فكرة إعادة الزنوج الى بلدانهم الأصلية.  وانطلاقا من منتصف القرن التاسع عشر، برزت على الخارطة الإفريقية ما أصبح يسمى بجمهورية ليبيريا، والتي اتخذتها حكومة واشنطن بمثابة القاعدة العسكرية الموالية لها في منطقة إفريقيا الغربية.  وحال انتهاء الحرب الأهلية بين الشّمال والجنوب.  في العاصمة منروفيا، تأسيسها؟  وطمعا في الحصول على المزيد من الإمتيازات، وشرع رجال الأعمال الأمريكيّون الذين يترددون على منروفيصفق اللّة تقتة.  نحن نهايات القرن التاسع عشر، نانت ليبيريا تصدّر الرزّ، والخشب، والتّوابل، والموز، والعقدة  ومع تطور صناعة السّيّارات بدءا من مطلع القرن العشرين، انضاف تصدير المطّاط الى الموادّ المذكورة.  غير أن وضع ليبيريا سوف يشهد تغيّرات هامّة على مستويات متعدّدة بعد الحرب الكونيّة الثانية.  فقد ضمرت عمليّات التّصدير، وتقلّصت الثروات.  وبسبب انشغالها بقضايا الحرب الباردة، انقطعت الولايات المتحدة الأمريكية عن الإهتمام بليبيريا.  سوف تحضر هذا البلد.  و كل هذا سيشكّل المحاور الأساسيّة لرواية  بطلتها تدعى هانّا موسغراف.  أسماء مستعارة.  هي وحيدة والديها التي ينتمي إليها الى الطبقة البورجوازية الميسوة.  وخلال سنوات الجامعة، انضمت هانا الى منظمة يسارية متطرفة شبيهة بمنظمة "بادر ماينهوف الألمانية، و" الألوية الحمراء "الإيطالية. وبسبب نشاطاتها المعادية للحكومة الأمريكية، وأيضا بسبب العمليات التي قامت بها ضد بعض المؤسسات الرأسمالية، أصبحت هانا على اللائحة السوداء. لذا كان عليها  أن تعيش في السرية لفترة مديدة باسم مستعار. وبمساعدة رفيق يساري تحصلت على جواز سفر مزيف، وبصحبته سافرت الى غانا لتبدأ هناك تجربتها الإفريقية التي ستعيش خلالها مغامرات مثيرة. ففي العاصمة أكرا، أمضت فترة ساعدتها على التعرف على جوانب مهمة من الحياة  في القارة السوداء. لكن حين تتأكد ان السفارة الأمريكية تراقب حركاتها وسكناتها، تغادر غانا، وتنطلق الى ليبيريا، البلد الصغير المحشور بين الكوت دي فوار وسيراليون، وليس معها غير عنوان السيد وودرو ساندياتا، وزير الصحة المساعد في حكومة الرئيس ويليام تولبار. وسرعان ما تتوطد  العلاقة بينها وبين هذا الشاب الوسيم والطموح، والذي درس في الولايات المتحدة الأمريكية. ثم أفضت هذه العلاقة الى زواج. وبذلك أصبحت هانا مقربة جدا من الحلقة الضيقة التي تحيط بالرئيس تولبار، وبات باستطاعتها أن تتعرف على خفايا الحياة السياسية في البلاد، وعلى المؤامرات ا  لتي تحاك في الخفاء، وعلى الصّفاق  كما اكتشفت ان الرئيس ووزراءه ومستقبله.  وبعد أن أنجبت ثلاثة أطفال، اكتشفت هانا أن زوجها الذي كان نفوذه في الحكومة يزداد قوة يوما بعد آخر، يخونها مع الخادمة التي جاء بها من قبيلته التي تعيش في الأدغال.  وبهدف الإنتقام منه؟  ثم بدأت الأوضاع في التدهوربسبب فساد الحكام، وانغماسهم في الملذّات غير عابئين بهموم شعبهم.  وتصف هانا الأوضاع المزرية على النحو التالي: "إذا ما أنا كلفت نفسي وغادرت شارع" دوبون "الراقي حيث نقيم، لكي أذهب الى الشوارع القريبة، فإني أجد نفسي في قلب شارع عمالي يعج بشبان قادمين من الريف، وجميعهم أميون تقريبا، وليس لهم من المؤهلات  إلاّ ما تعلّموه في ضيعاتهم الفقيرة.  وهؤلاء يعدّون بعشرات قصيرة.  وهم يأتون إلى المدينة  ونحن لا يعثرون عليه، يقفون في الشوارع.  وهكذا، يتحوّلون إلى لصوص ونشّالين ومجرمين ومتسوّلين وسكّيرين.  وفي الليل تكثر البغايا في الشوارع، وجميعهن قادمات من الأرياف وهنا.  وهنّ يعملن لصالح عصابات منظّمة.
 وعندما تتوغل هانا في الأحياء الفقيرة، تجد نفسها أمام اطفال صغار عراة تماما، يلطخ الوحل أجساهم، ويتكدس الذباب فوق جراحهم.  وماذا النساء فيمضين؟  وعندما تعود هانا الى البيت، تجد زوجها وقد جلس في الشرفة يدخن السجائر الرفيعة، ويشرب الويسكي، ويتحدث الى أصدقائه الوزراء عبر الهاتف عن سهرات الليالي السابقة، وعن سهرات الليالي القادمة في فنادق منروفيا الفاخرة.  كما لاحظت هانّا أن الصحافييّن والسياسيين  وثمّة جرائد كثيرة  في جميع المدن، كما هو الحال في العاصمة منروفيا، وينتشر رجال الرئيس المفتش العضلات ليراقبوا حركات ملناس.
 وفي ربيع عام 1979 قام الرئيس تولبار بمضاعفة سعر الرّزّ.  وفي الخطاب الذي أعلن فيه عن ذلك، طلب من الشعب تقديم المزيد من التضحيات لكي تتمكن ليبيريا بحسب زعمه من دفع ديونها الخارجية! لأيام عدة ظل الشعب صامتا، ثم غاضبا وحانقا، نزل الى الشوارع ليخرب ويحرق كل ما يعترض طرقه.  وكان رد النظام على الإنتفاضة الشعبيّة عنيفا للغاية.  فقد صدرت الأوامر للجيش ولقوات الأمن بالتصدي بالسلاح للغاضبين الذين نعتتهم وسائل الإعلام الرسمية ب "الخونة" فكان عدد القتلى والجرحى بالمئات.  وعلى مدى وجوده ظلّت الجثث  وخوفا من اسفحال الأزمة، تراجع الرئيس تولبار عن قراره منوها ب "شجاعة الجيش الذي تمكن من القضاء على انقلاب شيوعي" بحسب تعبيره.  غير أن الأوضاع الحالية  ومستغلاّ ذلك، قام ضابط شبه أمّيّ يدعى صاموئيل دو بانقلاب عسكري مطيحا بنظام تولبار.  ومع زرائه ومستشاريه، سيقف هذا الأخير إلى شاطئ منروفيا.  هناك وقفوا عراة وسط حلقة من الغاضبين، ثمّ تمّ إعدامهم رميا بالرصاص.  حدث ذلك عام 1983.  بعدها بدأت حلقة جديدة من الصّراع على الحكم.  فقد قام شاب شاب وسيم بنهمه للمال والعمال يدعى شارل تايلور بمحاولة انقلابيّة ضدّ صاموئيل دو.  فلمّا فشلت تلك المحاولة،  هل من الممكن أن تكون هنا؟  وانطلاقا من الكوت دي فوار، زحف هو وأنصاره على العاصمة منروفيا ليطيح بحكم غريمه.  ومرة أخرى عشتشت ليبيريا  فقد برزت للوجود عصابات تتقاتل بضراوة، وتخرّب وتشعل الحرائق في كل مكان، وتغتصب النساء، وتجبر الأطفال على حمل السلاح.  وأمام هانّا، وأمام أطفالها الثلاثة، قطع رأس زوجها.  هل أنتِ بأمر من سائقه الخاص؟  ثم آختفى الأبناء الثلاثة.  وعلى مدى أسابيع طويلة، ظلّت هانّا تبحث عنهم دونما جدوى.  في النهاية، تعود إلى بلادها راغبة في فتح صفحة جديدة في حياتها.  غير أن ذكريات السنة الطويلة التي لم تتوقف عن تعذيبها وملاحقتها.  بعد سنوات من الغياب  و "باردة القلب" قفله عشاء الى بلادها لتواجه شيخوختها محاطة بأشباح الماضي الرهيب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي