أكتب أدب الأطفال منذ 10 أعوام. ومع ذلك فإنني أتردد في تحديد ماهيته. ولكن بإمكاني أن أعرف بثقة أكبر ما لا يصب في تلك الدائرة، ما ليس موجها للأطفال حصريا.
عندما أكتب، أكتب لشخصين: لنفسي عندما كنت في سن 12 سنة، ولنفسي حاليا. ولابد للكتاب أن يلبي رغبتين مختلفتين ولكنهما مرتبطتان.
فشخصي في سن 12 عاما يريدالاستقلالية، والمغامرة، والعدالة والطعام، وفوق ذلك كله أمور كثيرة يمكنني أن أنغمس فيها. أما شخصي البالغ فيريد ذلك كله، إضافة إلى الاعتراف بالخوف، والحب والفشل، والمنغصات الأخرى التي تعيش في قلوب البشر.
فما أحاول أن أفعله عندما أكتب، هو أن أقدم في أقل عدد من الكلمات الأشياء التي أريد أن يعرفها الأطفال عاجلا، وما أريد أن يتذكرها الكبار.
فالذين يكتبون للأطفال يحاولون أن يزودوهم بكل الحقائق التي يحتاجوها في الحياة المقبلة عليهم. وربما تجهيز الكبار سرا لتلك التنازلات والحسرات الضرورية في الحياة، لتذكيرهم بأن هناك حقائق ثابتة يمكننا العودة إليها.
ولكن هناك شعور عند أغلب الكبار بأن القراءة تكون في اتجاه واحد، وإلا فإننا نعود إل الوراء ونفقد النضج. نبدأ بقراءة قصص الأطفال ثم منها إلى روايات الكبار، وهكذا نبقى منتصرين فلا نتراجع لأن العودة إلى الوراء تفقدنا التوازن.
والواقع أن قلب البشر ليس له مسار خطي. فالناس لا يقرأون بهذه الطريقة. وعلى الأقل ليست هذه هي الطريقة التي قرأت أنا بها.
فقد تعلمت القراءة في وقت متأخر نوعا ما، مع الكثير من الصعوبة والمعاناة، وفجأة وجدت لذة ونهما كبيرين في قراءة الكتب فقرأت ماتيلدا لجين أوستين. ونارنيا لأغاثا كريستي.
أخذت معي إلى الجامعة قصة قصر هاول المتحرك لديانا وين جونز، أمسك به إلى صدري كأنه طوق نجاة. ولا زلت أقرأ بادنتون، عندما أريد أن أعتقد، مثلما يعتقد مايكل بوند، أن معجزات العالم أكثر قوة من الفوضى التي فيه.
وذلك حتى لا تصبح القراءة الهدف منها تطوير الذات، أو شبيهة بشراء حذاء رياضي بمواصفات عالية أو الاشتراك في نادي للتدريب الرياضي، بداية كل سنة. فجميع النصوص لابد أن تكون متاحة لجميع الناس.
والصعوبات التي تقف في طريق التدرج في القراءة متعددة، من بينها أنه إذا اتبعت النمط نفسه، حتى فترة البلوغ، بحثا عن الكتب الأكثر تعقيدا، فإنك لن تجد في النهاية إلا "يقظة فينيغان"، والأعمال الكاملة للفيلسوف الفرنسي رائد التفكيكية، جاك دريدا، لتؤنس به وحدك، على فراش الموت.
والصعوبة الثانيةتكمن في إهمال قصص الأطفال. وأقول أن هذا قد ينعكس سلبا علينا، لأننا نهمل ونحن كبارا، روائع يمكنها أن تؤثر فينا بطريقة مختلفة إذا نحن قرأناها بعيون البالغين.
ويستون هيو أودن يقول: "هناك كتب جيدة موجهة للكبار فقط، لأن فهمها يتطلب تجربة البالغين. ولكن ليس هناك كتب جيدة موجهة للأطفال فحسب".
مليونير صيني يرسب 27 مرة في امتحان الدخول للجامعة
هوليوود: عشرات الآلاف من الفنانين يبدأون إضرابا موسعا
فأنا لا أفترض أبدا أن يقرأ الكبار كتب الأطفال فقط، ولكن أحيانا تأتي على الإنسان أوقات تكون فيها هذه الكتب هي الملجأ الوحيد.
كيف يقرأ الأطفال؟ ما الذي يمكن أن نقدمه من ميزات مثل اللهفة والتعطش والانغماس التي يقرأ بها الأطفال؟ عندما كنت صغيرة كنت أقرأ برغبة جامحة للفهم.
أما ذاكرة البالغين عن طريقة قراءة كتب الأطفال فيغلب عليها الحنين إلى الماضي. ولكن حاجتي إلى القراءة عندما كنت طفلة كانت حادة وعاجلة، وغاضبة. كانت عائلتي كبيرة. وكانت القراءة تمنح لي بعض الخصوصية هربا من الصخب والمراقبة الدائمة لبقية إخوتي.
كنت أجلس بينهم في السيارة، ولكنه في الواقع الوقت الوحيد الذي لا يعرف فيه أحد أين أنا. أزحف مع الهوبيت في الأنفاق المظلمة أو أقف أمام قطارات مقبلة تلوح بأعلام حمراء. عندما تقرأ وحدك فإنك تدخل فضاء لا نهاية له ولا يمكن لأحد أن يتبعك.
كيف نشأت كتب الأطفال
جاءت كتب الأطفال الانجليزية الأولى في شكل إرشادات تعلمهم حسن السلوك. وأفضلها لدي والأكثر صرامة في نبرته هو "كتاب الطفل". ويعود المخطوط إلى عام 1475، ويقول فيخ المؤلف: "أيها الطفل، كتابي وضعته من أجل تعليمك فقط".
ويتضمن الكتاب قائمة من التعليمات في شكل أبيات: "أنفك، أسنانك، أظافرك، .."
وفيعام 1715 نشر إسحاق ووتس، مجموعة أغان، بعنوان "أغان ربانية أخلاقية للأطفال". وهو كتاب أراه رائعا، لأن مقدمة المؤلف تبين أن الاعتقاد الذي كان سائدا في القرن 18 هو أن الكتابة للأطفال نقيصة.
فكتب واتس يقول: "أعرف تماما أن بعض أصدقائي يرون أن كتابتي للأطفال مضيعة للوقت. ولكنني أواسي نفسي بمعرفتي أن خادم المسيح لا يضيع شيء من وقته إذا هو أنفقه في سبيل عزة ملكوت ربه".
ويصنف الكتاب نفسه ضمن فئة كتب كانت مشهورة وقتها تتحدث في أسلوب شعري عن حتمية الموت.
وفي عام 1744، نشرت الأعمال الأولى باسم أدب الأطفال. وفي هذا الغرض نشر جون نيوبري كتابه "ليتل بريبيت بوكت بوك" الذي يهدف إلى الإرشاد والتسلية. وهو كتاب فيه متعة أكثر مما نتوقع، فقد طعمه بأسلوب ساخر.
وأسست نصوص نيوبري إلى نمط معين وهو أن كتب الأطفال لابد أن تكون إرشادية أولا ثم ترفيهية ثانيا.
الحكايات الثورية
وإلى جانب قصص الأخلاق والانضباط في السلوك، انتشر نوع آخر من القصص التمردية والثورية، وهي القصص الخيالية.
ولم تكن القصص الخيالية أبدا موجهة للأطفال وحدهم، بل هي لكل الناس، الصغير والكبير منهم، والرجال والنساء في كل الأمم.
وترى خبيرة القصص الخيالية، مارينا ورنر أن القصص الخيالية هي أقرب إلى الثقافة العالمية المشتركة. فكلنا الألمان والفرس والأمريكيون نروي القصص الخيالية نفسها، لأن القصص تهاجر عبر الحدود بكل حرية مثل الطيور.
وتشترك جميع القصص الخيالية كلها في المكونات. فيها كلها الشخصية المثالية، وزوجة الأب والملك الجبار والحيوانات القادرة على الكلام. وتحكي عن الظلم والنزاعات، وغالبا ما تكون الأحداث فيها عنيفة وباذخة، لا تخفي شيئا من عنفها عن الكبار أو الأطفال.
ولكن تكون فيها أيضا الشخصية المنقذة والحركات السحرية التي تجلب المعجزات والأمل إلى القصة. وتضيف مارينا عن القصص الخيالية أنها: "تتناول جميع أنواع العنف والظلم وسوء الطالع، فهي تثير الخوف لتقول لنا بأنه علينا ألا نخاف".
إنها روح التفاؤل البطولي. تفاؤل مضرج بالدماء ولكن التفاؤل مبدأ الحياة. والقصص الخيالية تتحدث إلينا جميعا، لأنها مصممة للتحدث لكل إنسان في الوقت نفسه، وتقدم لنا نموذج عن القصص التي تجمع الناس على اختلافهم وتعددهم في فضاء خيالي واحد.
فالقصص الخيالية والأساطير والخرافات أساس الكثير من الأشياء في حياتنا، وعلينا أن نواصل قراءتها وكتابتها، واستعادة ملكيتها لأنها تملكنا.
وفي منتصف القرن 19 أصبح الورق متوفرا أكثر، وارتفعت نسبة تعليم الأطفال، حينها فقط بدأ أدب الأطفال يأخذ بعين الاعتبار رغبات الأطفال.
ووجد التعطش إلى القصص الخيالية طريقه إلى روايات الأطفال بفضل ازدهار الطباعة. وانفصلت قصص الأطفال عن قاعة الدرس، والمنبر. وبدأ حينها العصر الذهبي لكتب الأطفال.
فقد قضى لويس كارول وروديارد كيبلينغ وجي أم باري، وإي نسبيت، على الأولياء، أو أهملوهم أو تخلوا عنهم عندما سقطوا وطاروا إلى بلاد العجائب، وبذلك حرروا الأطفال من إكراهات عالم الكبار. أطفال أيتام دون مراقب يهيمون في بلاد الحكايات ويتسببون في الفوضى المطلوبة للمغامرة.
وفتحوا الباب لمغامرات أكبر وأكثر جنونا، تدفع حدود المستحيل.
وهنا سقطت فكرة أن الأطفال لطفاء وبالتالي أكثر بساطة ورقة من فئات البشر الأخرى. وكذلك فكرة أن أي منطق لابد أن يكون منطق الكبار. عندما كنت صغيرة لم أكن أتوهم أن الأطفال لطفاء. فالأطفال الذين عرفتهم من قلبي الحانق مقرفون ويميلون إلى الوحش وقصار القامة.
وبالتخلي عن هذه الفكرة، بدأت كتب الأطفال تعمل وفق قواعدها الخاصة، وأصبحت بذلك أعمالا فنية منفردة، بتقاليدها الخاصة، وليست نسخا ملطفة من كتب الكبار.
واستمر ذلك التقليد. ويمكن أن تتبع شجرة العائلة من بيرت بان الذي صدر في عام 1902 إلى ماري بوبنز في 1934 إلى الفوضوية والمنطق السريالي في عام 1963. والنمر الذي جاء لشرب الشاي في عام 1968.
وإلى روالد دال وفرانك كوتريل وليزا إيفانز، وإلى شخص لا نعرف اسمه الآن، وهو في مكان ما يكتب قصة تهز وجداننا.
وتستمر شجرة العائلة في التوسع. ولا تزال كتب الأطفال إلى اليوم مشبعة بنفس التعطش إلى العدالة الذي يميز القصص الخيالية.
وكتب الأطفال موجهة إلى فئة معينة من المجتمع لا تملك سلطة اقتصادية أو سياسية. أنهم أشخاص لا يملكون المال و لا الحق في التصويت، ولا سلطة لهم على رأس المال ولا على اليد العاملة، ولا على مؤسسات الدولة.
ولأن الكبار كثيرا ما يجدون أنفسهم بلا قدرة في الحياة، فعلينا أن نسارع إلى كتب الأطفال، كلما أردنا أن نبدأ من جديد.
وتفعل كتب الأطفال فينا فعلا آخر هو أنها تساعدنا في العثور على أشياء قد نكون نسينا أننا فقدناها. فحياة البالغين مليئة بالنسيان. فقد نسيت أغلب الناس الذين التقيتهم، وأغلب الكتب التي قرأتها.
فقد نسيت في مرات عديدة من حياتي كيف أقرأ، كيف أدع الشك وأضع ثقتي في كتاب. وبتفاؤل قد يبدو مفرطا أقول إن قصص الأطفال تعلمك كيف تقرأ بقلب مفتوح.
فعندما تقرأ كتب الأطفال فإنك تحصل على مجال لتقرأ مثل الأطفال مرة أخرى، لتستعيد طريقتك في القراءة، وتعود إلى الزمن الذين كانت فيه الاكتشافات الجديدة كل يوم، وعندما كان العالم عملاقا، قبل أن يتعرض خيالك إلى التقليم والترتيب.
ولكن الخيال ليس اختياريا، إنه جوهر كل شيء، إنه الوسيلة التي تسمح لنا بمعرفة العالم من منظور الآخرين.
وكان إيدموند بيرك أول من استعمل مصطلح الخيال الأخلاقي في عام 1790 وهو قدرة التصور الأخلاقي تجاوز حدود الأحداث الآنية وتجاوز الحدود التجريبة الشخصية. ومن أجل هذا نتحاج إلى كتب تعذي الخيال، وتحفز القلب والعقل. وكتب الأطفال تعلمنا ليس فقد ما نسينا، ولكن ما نسينا أننا نسيناه أيضا.
أمر أريد أن أختم به هو أنني أفضل فترة البلوغ على فترة الطفولة. فأنا أحب التصويت، والشرب والعمل. ولكن العالم بالنسبة لي على الاقل يبدو أحيانا فارغا، ومسطحا ودون حقيقة.
وفي هذه اللحظات تفعل كتب الأطفال في نفسي ما لا يستطيع شيء آخر فعله. ولا تزال كتب الأطفال اليوم تتمتع بميزتها التربوية الأولى، ولكن ما تحاول تعليمه لنا خضع للتغيير. فروايات الأطفال برأيي كانت ولا تزال تتحدث عن الأمل.
فهي تقول: أنظر هذه هي الشجاعة. هذا هو الكرم. وتقول لي عن طريق الشخصيات العجيبة والأسود والعناكب المتكلمة إن هذا العالم الذي نعيش فيه عالم يسكنه ناس يتبادلون النكت ويعملون ويعانون.
وتقول كتب الأطفال إن العالم ضخم. وتقول إن الأمل له اعتبار. وتقول إن الشجاعة مهمة، والنباهة، والتعاطف والحب أيضا.
وقد تكون هذه الأمور حقيقة وقد لا تكون، أنا لا أعرف. أتمنى أن تكون حقيقية. أعتقد أنه من الضروري أن نستمع إليها ونكلمها.