: آخر تحديث

خطاب «عيد الجلوس» في المغرب... حشد للهمم ويَدٌ ممدودة للجزائر

28
27
23
مواضيع ذات صلة

صار خطاب العرش (عيد الجلوس) في عهد الملك محمد السادس مناسبة لتقييم أداء الدولة والوقوف عند الحالة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، واستشراف المستقبل فيما يخص قضايا جوهرية ذات راهنية كبرى. لهذا فإن الرأي العام الوطني المغربي وحتى الدولي (عبر التمثيليات الأجنبية في الرباط) يتطلع لما يأتي به خطاب العرش من جديد، وللإرساليات الواضحة والمضمرة التي يمررها للتفاعل مع قضايا إما راهنة أو لها أبعاد استراتيجية تهم المغرب وبلدان المنطقة أو قضايا دولية تستوجب معالجة دقيقة من طرف المنظومة الدولية.
ولم يحد، خطاب 30 يوليو (تموز) الحالي، عن النهج حيث أتى ذا بُعْدٍ استراتيجي عميق، ولكنه في نفس الوقت قام بتحليل دقيق لقضايا راهنة ومستقبلية، وكل هذا في إطار مقاربة إنسانية متشبعة بقيم التضامن وحسن الجوار وثقافة التسامح.
الخيط الرابط للخطاب برمته هو ضرورة استلهام مكامن القوة في المنظومة المغربية، خصوصاً على المستوى القيمي وعلى مستوى النماذج التي أبانت عن نجاعتها، من أجل مواجهة الصعاب، صعاب الأزمة التي حطت رحالها عبر غلاء الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطن، والتحديات البنيوية المتعلقة بتمكين المرأة ودعم قدراتها، أو تلك المتعلقة بإنجاح الورش المُهيكِل للتغطية الاجتماعية، أو تحدي تذليل العقبات التي تقف أمام تدفق الاستثمار، أو اليد الممدودة للإخوة في الجزائر لبناء صرح علاقة جوار مبنية على التاريخ المشترك والثقافة الواحدة، والأخوة الممتدة جذورها عبر التاريخ.
فيما يخص تمكين المرأة ركز العاهل المغربي على ضرورة تجاوز منظور التمييز الإيجابي، والذي وإن مَكن البلاد من بعض التقدم فقد أبان عن محدوديته في التجاوب مع قضايا المرأة؛ وشدد العاهل المغربي على ضرورة المرور إلى منظور حقوقي مبني على الإنصاف والذي يبقى طموحاً على المغاربة قاطبة السعي إلى تحقيقه في المستقبل القريب.
إن مدونة الأسرة التي جرى اعتمادها سنة 2004 كانت إنجازاً في حد ذاتها، يقول ملك المغرب. ولكن الزمن أبان عن مكامن ضعف فيما يتعلق بتطبيقها أو في محدودية بعض بنودها. لهذا وجب الآن إعادة النظر في هذه القضايا ومعالجتها معالجة متبصرة، على المستويين التشريعي والمؤسساتي، وإن اقتضى الحال معالجة فقهية معتدلة تتبنى الاجتهاد والمقاصدية إن لم يكن النص القرآني صريحاً بشأنها.
ما يهم هو الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي عبر صون كرامة المرأة وضمان شروط بناء أسرة متوازنة ومتآزرة. وهي نفس القيم التي سادت التعامل النموذجي للمغرب مع تأثيرات أزمة (كوفيد - 19)، يقول العاهل المغربي، حيث جرى القيام بتحويلات مباشرة لصالح الفقراء، ودعم الحفاظ على فرص الشغل في القطاع الخاص، وضمان تموين السوق وشراء وتعميم التلقيحات مجاناً رغم تكلفتها الباهظة، والعمل على تعميم التغطية الصحية لضمان شروط أمن صحي يتم بموجبه إعطاء الإمكانيات للجميع للولوج إلى خدمات صحية ذات جودة تصون كرامة المرضى والمرتفقين.
تدخل التغطية الصحية في إطار مقاربة جديدة للقضايا الاجتماعية تتضمن كذلك التعويضات العائلية والتعويض عن فقدان الشغل، وكذا تعميم الحق في التقاعد. هكذا فبينما سيتم تعميم التغطية الصحية مع نهاية سنة 2022، فإن برنامج التعويضات العائلية لصالح العائلات التي تعاني من الهشاشة أو الفقر أو التي ليس لها أطفال في سن التمدرس (العدد الإجمالي هو سبعة ملايين)، ستتم مباشرته في 2023، لهذا يدعو الملك محمد السادس الحكومة إلى الإسراع بإخراج السجل الاجتماعي إلى الوجود لضمان وجود معطيات ستُمكن من استهداف دقيق للأسر المحتاجة، والتي سيكون من شأن التعويضات العائلية الرفع من قدراتها لمواجهة متطلبات الحياة.
إن الأزمة ترخي بظلالها على البلاد والعباد كما هو الحال في سائر أنحاء المعمور. لهذا فالتعافي الذي عرفه الاقتصاد الوطني بعد (كوفيد - 19) يصيبه التباطؤ جراء موجة التضخم التي ضربت العالم، والتي لم تزده الحرب في أوكرانيا إلا مزيداً من التفاقم، خصوصاً في فترة تعرف توالي سنوات الجفاف الحاد على المستوى الوطني. تدخل الدولة من أجل التخفيف من آثار الجفاف كان له وقع إيجابي في البوادي وعلى مستوى الفلاحة البورية المعتمِدة على الأمطار؛ الدولة تدخلت كذلك من أجل ضخ 16 مليار درهم (1.6 مليار دولار) إضافية (بالإضافة إلى 16 مليار درهم جرى اعتمادها في إطار ميزانية 2022) لدعم أسعار الدقيق والسكر والغاز البوطان.
ولكن الملك محمد السادس شدد على ضرورة تدخل الحكومة من أجل محاربة المضاربات ومحاولات استغلال الأزمة للزيادة في الأسعار.
لكن مع ذلك يجب الإبقاء على الأمل والدعوة للتفاؤل والاعتماد على المقومات التي يتميز بها الاقتصاد المغربي من أجل تجاوز الأزمة، يقول العاهل المغربي.
جلب الاستثمار، ودعم المنتوج الوطني، ودعم الصادرات كلها سياسات ستؤدي إلى خلق فرص الشغل وخلق الثروة. هذا يقتضي في نظري صرامة أكثر من طرف الإدارة والحكومة، فيما يخص حماية المستثمر ورفع العقبات التي تضعها الإدارة (هناك من يضع عقبات أمام الاستثمار، يقول الملك محمد السادس من أجل تحقيق أرباح شخصية) أمامه وتحسين شروط الولوج إلى العقار والتمويل والحصول على الدعم المباشر.
نفس روح التفاؤل سادت نداء الملك محمد السادس إلى الإخوة في الجزائر لتجاوز أسباب التوتر، والعمل سوياً لوضع أسس تكامل اقتصادي قويم يخدم مصلحة الشعبين الشقيقين. نداء من القلب يؤكد ضمنياً أن روابط الأخوة هي أعمق وأقوى من أن تؤثر عليها شطحات إعلامية هنا وهناك، لزرع منطق الفتنة بين البلدين اللذين يتقاسمان التاريخ والجغرافيا والثقافة والنضال المشترك ضد الاستعمار.
لهذا ناشد المغاربة بالكف عن مهاجمة الجزائر عبر منصات التواصل الاجتماعي، متمنياً بطريقة ضمنية أن يحذو القادة الجزائريون حذوه وينزعون فتيل الإساءات من أيدي من يريدون شراً بالمنطقة. وناشد القيادة الجزائرية لوضع اليد في اليد والنظر إلى المستقبل بروح الأخوة وحسن الجوار.
خطاب غني بالإرساليات، قوي بالرغبة في رفع التحديات، وإنساني في التركيز على قيم التضامن والتآزر وحسن الجوار. تم من خلاله تمحيص الواقع، من دون التوقف عنده، بل تم زرع الأمل في النفوس بأن الفَرَجَ قريب، فقط على الكل التحلي بروح المسؤولية، أمام نفسه وجيرانه وشعبه وأمام التاريخ. من له هذا الصرح من القيم لا يخاف من مطبات عابرة مهما كانت قساوة وقعها على النفوس وعلى العباد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد