: آخر تحديث

روسيا لا تحب الألوان!

36
46
45
مواضيع ذات صلة

فتاة في مدرسة ثانوية، تقدم نشرة الأخبار منتصف ثمانينيات القرن الماضي في التلفزيون الليبي، هذا لأن العقيد معمر القذافي، ديكتاتور ليبيا، صاحب الشطحات، لديه هوس، بما يسميه "جمهرة المواقع"، أي أن الجماهير المغبونة في مملكته، لا بد أن تتشارك في كل شيء، حتى تقديم الأخبار في محطة تلفزيون الجماهيرية العظمى!

لسوء حظ الفتاة، أن بالنشرة التي تُقدم، خبراً مفاده موت الزعيم السوفياتي قسطنطين تشيرنينكو (24 سبتمبر - أيلول 1911 / 10 مارس - آذار 1985). سوء الحظ  ذاك، لا يخطر على بال الشيطان. فلقد كان العقيد يتابع النشرة كعادته، انتابه غضب جمّ وسخط، انصب على الفتاة، زبانيته هرعوا إلى محطة التلفزيون. مدير الأخبار صديقي، من ذكر لي الحادثة بعد ذلك بسنوات، أصابه هلع حينها، ولم يعرف جرم الفتاة، من حولت للتحقيق. قال لي: شر البلية ما يضحك، في اللحظة العصيبة، لما سمعت التهمة، سيطر عليّ ضحك مكتوم صاخب. تصور لقد قيل إن تهمتها لبس فستان أحمر أثناء قراءة النشرة، ما فيها خبر الزعيم السوفياتي المتوفى، مما يؤشر للحداد!

بعد تلك الواقعة، الكوميديا السوداء، بزمن، وفي هذه الأيام من يناير (كانون الثاني) الحالي 2022، تتناقل الأخبار، أن بوتين لا يحب الثورات الملونة، تعليقاً عمّا حدث، من انتفاضة شعبية في بلاد الكازاخ! بوتين يتزعم بلاداً كانت مركز إمبراطورية تدعى الاتحاد السوفياتي، لون علمها، وليس علمها فحسب، أيقونة للثورة. لقد انقلب السحر على الساحر. ففي العالم اليوم، غدت دولة روسيا زعيمة لقمع الثورات، أو على الأقل الامتناع عن التصويت معها، كما حصل عند امتناع المندوب الروسي في مجلس الأمن عن التصويت مع قرار المجلس 1973، الصادر في 17 مارس 2011، ما يخص حماية المدنيين الليبيين، عقب ثورة فبراير (شباط).

لكن كره روسيا - بوتين للثورات الملونة لم يبعد شبح الاتحاد السوفياتي كركيزة من دعائم هذا الكره الاستراتيجي. فالتدخل في كازاخستان 2022، عقدة في عقد مرصّع بالتدخلات في الدول التي كانت سابقاً دول الاتحاد السوفياتي، ما يبدو الشبح الحاضر من أجل تكون روسيا، الوريث الشرعي للقبضة السوفياتية المهيمنة والشبح السوفياتي، ما يبرر احتلال سوريا، ثم التواجد العسكري الروسي في ليبيا، تحت قناع مرتزقة شركة "فاغنر".

كذلك يتستر وراء الشبح السوفياتي طموح القيصر الروسي القومي، ومن هذا سنجد في آسيا الوسطى، حلفين متنازعين ومتخاصمين، هما القيصر بوتين والسلطان أردوغان، من هو عضو الحلف الأطلسي، ما قائدته الولايات المتحدة، التي ما زالت حتى اللحظة ترى الشبح السوفياتي ويعاودها الحنين إلى أجواء الحرب الباردة، ما يدفئ جيوب كارتلات السلاح الأميركية الكبرى. وهذه الأجواء انعكست بشكل سلبي قوي على شرق المتوسط وشمال أفريقيا.

حرب الألوان هذه ناصعة ساطعة منذ الثورة البرتقالية في أوكرانيا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2004، مروراً بألوان الربيع العربي، الذي تمت استعارة تسميته من ربيع براغ 5 يناير 1968، حين دكته دبابات سوفياتية، ما يبدو أنه نموذج بوتين لكره الثورات الملونة.

الثورات التي تستحضر شبح الاتحاد السوفياتي وروح الحرب الباردة ما باتت في متاحف التاريخ، لكن المصالح ثم النفوذ، عادة ما تستند إلى حائط الماضي، كحائط مبكى، لاسترجاع الأمجاد. وذلك على الخصوص، في الدول الشمولية، دول اللون الأحادي ذات البعد الواحد، الدول التي فيها الزعيم الأوحد، من لا حسيب عليه، ينام على قبر الأسلاف، ومنهم يستدعي تعاويذه، مبرارته لخوض حروب زعامته.

ويتم تلوين الثورات لدواعٍ أيديولوجية في الغالب من مناصريها أو أعدائها، أما من ناحية الأعداء، فلوصمها بشيء شائن في تقديرهم. وعند الثوريين المتطرفين، كما عند ماو، تغدو الثورة في لون الدم كذا إنجيل الثورة، وفي إشارة المرور اللون الأحمر، السلامة والسماح بالمرور.

وعلى ذكر ماو وإشارة مروره الحمراء، فإن وريثه، زعيم الحزب الشيوعي والدولة مدى الحياة شي جين بينغ، أيّد باستماتة حمراء التدخل في كازاخستان. وكأنه بهذا يذكّر بنظرية ماركس في أوائل 1850، حول نمط الإنتاج الآسيوي بأن المجتمعات الآسيوية قد استعبدتها فئة حاكمة مستبدّة، تقيم في المدن المركزية، وتصادر بشكل مباشر فائض المجتمعات القروية ذات الاكتفاء الذاتي الكبير وغير المتمايزة بشكل عام. أخذين في الاعتبار توكيد الكثير من المفكرين القوميين الروس، أن روسيا شرقية أي آسيوية.

وهنا أنبّه إلى أن إشارتنا إلى النمط الآسيوي، من باب التهكم والسخرية، فليس ثمة نمط آسيوي، وماركسيون كثر لم يعيروا هذا التعيير أي اهتمام. كما لا يجب أن يفوتنا أن الولايات المتحدة حصلت على دور تمثله كنصير للثورات الملونة، فكأنها صبغت جسدها بلون علم الاتحاد السوفياتي، الشبح الذي لم يدفن بعد.                                              


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد