: آخر تحديث

أمكنة صغيرة.. وتاريخ كبير

45
51
45
مواضيع ذات صلة

هناك أمكنة محزنة في عزلتها وإهمالها، نمر عليها اليوم وقد تحولت إلى مجرد أصداء مع أنها تحمل في أعماقها شيئاً منّا، والكثير من أحلامنا ومآسينا الموءودة، وننسى بسرعة أنها نحن.

لو توقفنا قليلاً أمامها لاكتشفنا تاريخاً بكامله ينام تحتها، هو تاريخ هذه الأرض العربية من مشرقها إلى مغربها، الذي لا يهتم بهذا التاريخ، يهمل جزءاً من روحه، وما أسَّس إنسانيته العميقة، وربما تقدمه أيضاً، زاد الطين بلة المتطرفون الدينيون حينما اعتبروا أي فعل حضاري تصنيماً للحياة الثقافية، هل هناك إنسان يرتاد اليوم المتاحف في بريطانيا أو فرنسا، أو مصر أو بقية بلداننا العربية، يشاهد المجسمات والتماثيل الصخرية، يخرج وهو يفكر في عبادتها؟

هذا العقل المريض يرى في كل بنية جماليَّة ضرراً، وهل هناك من يشاهد لوحات اللوفر العالمية، ويخرج وهو يرى في «الرسم التشبيهي» شركاً للخالق في مخلوقاته؟.. القيمة الجمالية هي من جمال الخالق وتظل الروح من أسراره وحده، الاهتمام بالمنجز الإنساني يعيدنا نحو أنفسنا.

زرت قبل الجائحة بقليل، المنطقة الساحلية الفاصلة بين الحدود الجزائرية - المغربية، أعدت اكتشاف مكان ساحر، أو كان كذلك، ساقية يسيل منها الماء 24/24 بلا توقف، كان يشرب منها البشر والبهائم، يسميها الكثيرون «السقاية» والبعض الآخر يستعير المفردة الفرنسية «لافونتين» التي تعني عين الماء، كنت قد بحث طويلاً في هذا المكان الذي شيد في 1905، كان في الأصل سلسلة من الآبار قبل أن يتم توصيلها بقنوات تحت أرضية ليصبح اندفاع مائها أقوى، وحتى لا يضيع ماؤها، أنجز الفلاحون على امتداد الوادي الذي تمر عبره المياه المتدفقة من السقاية، حدائق وجنّات تزخر بكل أنواع الزهور والخضر والفواكه، قبل أن يجف كل شيء وتموت الجنّات وتحول المكان إلى غابة من الإسمنت المسلح والبنايات!

وأنا أشتغل على الرواية التاريخية، اكتشفت أن بهذا المكان أسراراً تتعلق بتاريخ المنطقة كلها، مثلاً، كانت السقاية واحدة من أهم نقاط الماء بالنسبة لجيش الأمير عبدالقادر الجزائري، حتى عندما خاض معركة «سيدي إبراهيم» ضد الغزاة الفرنسيين، كانت هي نقطة رجوعه قبل التحضير لهجوم جديد، خلال معاركه بالمنطقة، وقبل استسلامه، كان الضابط الفرنسي العقيد (الجنرال لاحقاً) باتريس مكماهون وجيشه المكون من الزواف وفرقة الخط التاسعة، يحرسون السقاية ليلاً ونهاراً، والتضييق على الأمير ودائرته وجيشه، الغريب أنّ تاريخ باتريس مكماهون، المرابط في سقاية سيدي بوجنان ارتبط عضوياً بهذه السقاية، فقد شارك الرجل في حصار قسنطينة لدفعها إلى الاستسلام في 1837، ثم انتقل إلى أقصى الغرب الجزائري على الحدود المغربية، وحارب الأمير عبدالقادر، بكل ما يملك من جيوش، وحاصر «سقاية سيدي بوجنان» طويلاً لمنع الأمير من التزوّد بالماء، ونظراً لمعرفته بالمنطقة جيداً، وقيادته الكثير من المعارك، عُيّن حاكماً للجزائر، وقد عُرِفت فترته بالقسوة والتقتيل وإجهاض أية محاولة للمقاومة، قبل أن تنتهي به تجربته العسكرية في المنطقة إلى رئاسة دولة فرنسا في 4 مايو 1873، نعم، تاريخ السقاية ملتصق بشخصيتين قياديتين: الأمير عبدالقادر وباتريس مكماهون.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد