: آخر تحديث

الفن في زمن السجن

38
39
33
مواضيع ذات صلة

يختلف الزمن في السجن عنه لدى الشخص الحر الطليق. لقد استشعرنا ما يعانيه السجين من خلال تجربة الحجر، التي كنا فيها حبيسي منازلنا. إنه زمن موحش خانق يكاد يطبق على أنفاسك بلا هوادة ولا رحمة، فالزمن هو الذي يشعرك بألم السجن ووجودك خارج العالم.
حاولت الحكومات وإدارات السجون في كل بقاع العالم أنسنة السجون، وإخراج السجين من سجن الذنب الذي بداخله، وأسوار السجن المادي التي تحيط به، إلى أفق أوسع وأرحب، فكان الرسم أو الفن التشكيلي عموما، الذي يخلخل إيقاع الزمن ويغير من الشعور بثقل الأيام والساعات، حتى الثواني المتعاقبة التي يكاد السجين يسمع صوت خطوها على ساحة الوقت، فينتشله الفن أو الرسم من هذا الضجيج.
حينما يشرع السجين في الرسم، تبدأ معه حالة من الانفصال عن الواقع، يخرج من بوتقة الزمن إلى التأمل والبحث عن الذات عن حقيقته، إنه لا يرسم خطوطا على الورق، بل يرسم ذاته، يتعرف عليها من خلال لوحاته، فكل خط ولون وشكل هو نافذة إلى روحه وعقله ووجدانه، إنها تعبر عن خلجات نفسه، فيمنحنا جزءا من روحه في لوحة، أو مجسم، أو في حركة خط متعرجة وكأنها ترسم خط حياته الذي توقف داخل زنزانة! حينما يقرر السجين أن يرسم أو يمارس عملا فنيا آخر، يكون قد أخذ القرار ليتحرر من خوفه ومن قسوة أيامه ونظرة الناس السوداوية إليه، حتى نظرته إلى نفسه. لا يهم ما يرسم أو درجة الإتقان في الرسم أو النحت أو الخط، فهو يمارس حريته المطلقة على الورق. يقول جوزيف بويس، "الإبداع هـو فقـط ما يمكنه أن يعـرف نفسـه، وأن يـبرر نفسـه على أنـه علـم الحريـة".
كل رسمة، ولو كانت بسيطة جدا، تعلن حرية السجين وانعتاقه من كل القيود التي فرضت عليه، فهو يرسم ما في داخله بحرية تامة، ويعلن من خلالها تمرده، ويسبر أغوار نفسه دون أن يشعر بذلك، إنه عالم عميق من اللاوعي. من خلال الرسم يعيش السجين حياة حرة موازية لحياته الحقيقية القاسية.
لذا، أول ما يبدأ السجين بالرسم، تكون ألوانه قاسية وحادة، تعبر عن غضبه وتوتره ويأسه، وبعد فترة من الزمن تبدأ حدة الألوان تختلف ويميل إلى استخدام الألوان الباردة والهادئة، بعد أن فرغ مشاعره السلبية وتحسنت صحته النفسية.
الفن بأنواعه لديه القدرة على تحويل الإحباط والحرمان والشعور بالذنب والمعاناة لدى السجناء، إلى طاقة خلاقة وإيجابية، ترمم أرواحهم وكأنهم بلوحاتهم وفنهم يعاتبون العالم، ويوجهون إليه دعوة لرؤية جمال ما في داخلهم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.