: آخر تحديث

فوضى الأولويات الفكرية والرؤوس المتطايرة

43
38
32
مواضيع ذات صلة

في خطاب تتداوله مواقع التواصل الاجتماعي صرخ زعيم ما تبقى من المعارضة التركية ورئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشار أوغلو على منبر الجمعية الوطنية التركية (البرلمان) : نريد أن نعيش بسلام مع العالم. كان هذا انتقادا مباشراً لسياسات الرئيس رجب طيّب أردوغان الإقليمية والدولية "التي جعلت العالم يتخلّى عنا" كما قال كمال كيليتشار أوغلو متهكِّماً في خطابه المشار إليه على دعوة رجب طيِّب أردوغان لمقاطعة البضائع الفرنسية بينما تحمل زوجته السيدة أمينة محفظة يد من ماركة HERMÈS الفرنسية يبلغ سعرها خمسين ألف دولار (صحّح له أحد النواب بأنها خمسون ألف يورو أي أغلى ثمنا) بينما لا يستطيع المواطن التركي بسبب سياسات أردوغان الإفقارية شراء ربطة خبز. وتحدّاه أن يبيع الطائرات الفرنسية التي تملكها تركيا أو يغلق معمل رينو على الأراضي التركية.

النموذج الشعبوي الذي يقدّمه أردوغان حاليا يتناقض مع أحد أهم شعارات مؤسِّس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك والذي هو أيضا مؤسِّس حزب الشعب الجمهوري والقائل بعد طول حروب: "سلام في الداخل، سلام في الخارج".

يبدو أننا سنستمر بدفع أثمان كبيرة لاستمرار حضور تيارات الإسلام الأصولي في حياة المسلمين سواء في بلادهم أو في بلاد الغرب. فرغم الفشل الذريع الذي أصاب ويصيب المشاريع السياسية لأحزاب الإسلام الأصولي، لا زالت هذه الأحزاب والجماعات أكانت حاكمةً أو معارضة، قادرةً على إفساد علاقاتنا بالغرب وحتى داخل مجتمعاتنا بسبب الطاقة التحريمية الدينية التي تملكها وتفرض عبرها تصعيدا في توترات حيواتنا العامة والخاصة.

لقد وُجِدت دائما مشاكل ناتجة عن إساءات للرموز الدينية من كل الأديان، بما فيها الإساءات للرموز الإسلامية، لكن من دون التيارات الأصولية كان يمكن استيعاب هذه الإساءات ووضع حد قانوني أو سياسي لها كما حصل مراراً في السابق. الأصولية الإسلامية تجعل التعايش مع المجتمعات الأخرى مستحيلةً وتضع مسلمي المجتمعات الغربية في حالة قطيعة خطرة مع محيطها. لا بل الأسوأ هو أن التيارات المتطرفة القومية أو الدينية في المجتمعات الغربية باتت تتغذّى، كما هو معروف، من عنف وضيق أفق الأصولية الإسلامية بما يساهم في الموقف الهجومي ضد الإسلام والتشكيك بطاقته التعايشية مع الآخر.

كتبتُ على صفحتي على الفايسبوك قبل أيام:

" لست نادما على القول في كتابي "المهنة الآثمة- نقد تجربتي في الكتابة السياسية" ما معناه أن السلطة التحريمية لأي رجل دين مسلم صغير أو قليل الأهمية في أي زاوية من زوايا الأرياف المسلمة من أقاصي باكستان وأندونيسيا إلى أقاصي المغرب والعراق تفوق سلطة كل ما حصل عليه جمال عبدالناصر وصدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي وسوهارتو ومعهم صلاح الدين من سلطات سياسية مجتمعين.(الفصل الرابع : النص المحرّم). كنت أسائل نفسي أحيانا هل أنا أبالغ في ذلك... لأعود وأتمسّك بهذا الرأي".

يجب أن نتذكّر دائما أن موضوع الإساءة لرموز مسلمة، ليس شأنا محصوراً بالغرب، بل هو جزء من صراع المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة مع نفسها قبل غيرها. وبالمقابل، إذا كانت مشكلة الرمزية الدينية مشكلة حادة ليس فقط عند المسلمين فإن سياسة حصار لنقاط ومواضيع التوتر يمكنها أن تخفِّف الكثير من السلبيات الناتجة عنها حين تتوفّر إرادات سياسية راغبة بالاستيعاب لا بالاستثمار فيها.

صار من المسلّم به أن ظاهرة الشعبوية الأردوغانية لا تأتي من فراغ بل هي جزء من انتشار سلطوي لأنظمة تدمج القومي بالديني كما هو واقع الحال في جمهورية الهند اليوم. لكن في منطقتنا يلاقي أردوغان على رأس تركيا سياسة أخرى نشطة في مجال الاستثمار الديني هي إيران. كل هذا في ما يشبه الحصار الجيوسياسي على داخل الكماشة العربي الذي يرد عبر دول خليجية أساسية باللجوء إلى أقصى البراغماتية التي يمكن أن تكون قد بدأت صناعة تحوّل استراتيجي في المنطقة

ليست الساحة مفتوحة للشعبوية الإسلامية فقط. هذه هي الخلاصة. وتتصارع عند المسلمين نزعات مختلفة لكن أهمها اليوم أن الأصوليات تواصل زحفها الثقافي في ظل تراجعها السياسي العميق.

ولعل المراقب للنقاشات واللا نقاشات الدائرة في عالمنا المسلم وما يتفاعل عليه وفيه من "جهل مقدس"(حسب تعبير أوليفييه روا) يسأل أين يجب أن يضع من يعتبر نفسه مثقفاً تحديثيا في العالم المسلم اليوم: هل تكون الديموقراطية هي قضيته الأولى كما يفترض كثيرون، أم محاربة الأصولية أيا يكن نظام الحكم مستبدا أو ديموقراطياً، مدنيا أم عسكرياً؟

هناك فوضى في الأولويات تخلقها فوضى الوقائع نفسها. التجربة السورية من موقع مثقف مشغول ومنشغل هي ذروة الفوضى فكريا. كيف كان يمكن القبول أن تكون التيارات الأصولية المتوحشة هي رأس حربة الصراع من أجل التغيير في بلد كسوريا؟ تلك فضيحة ولو كان الكلام العربي والغربي قليلا عنها.

ما الفرق الآن في فوضى الأولويات بين الشارع السوري وبين الشارع الباريسي وبين الشارع الإيراني والشارع التركي والشارع الهندي؟ بالنسبة لمثقف مسلم الفوضى الفكرية نفسها حيال الأولويات في عصر الأصولية ولو اختلف السياق السياسي بين بلد متقدم ومستقر كفرنسا وبلدان منكوبة كسوريا وليبيا واليمن و"نصف منكوبة" كإيران و"ربع منكوبة" كتركيا وديموقراطية مأزومة وصاعدة كالهند؟

الأمثلة كثيرة التي تدفعنا فوضاها إلى التفكير بالإسلامات المتعددة وتحدياتها فكيف لو أضفنا الصين العملاقة؟

لن يكون ممكناً في الجيل الراهن التصدي العقلاني لموقع الدين في حياة المسلمين قبل إزاحة التيار الأصولي من المشهد. هذه لحظة للمزيد من الدعوة الملحة إلى احترام الرموز الدينية وعدم التلاعب بهذه المسألة الغاية في الخطورة ولكن في الوقت عينه الدعوة إلى ضرورة إخراج التيار الأصولي التكفيري من المشهد السياسي أينما كان.

بينما تتطاير الرؤوس تتطاير أيضا الأولويات الفكرية ويزداد على الأرجح التشوّش في هذه اللحظة التي تحتاج إلى إدانة صريحة بقدر ما تحتاج إلى البحث المضني عن التركيز.

بعد اليوم، التواطؤ والخبث كما حصل مع وحوش سوريا الأصولية، لم يعد جائزاً تحت أي مبرر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد