: آخر تحديث

المدينة تودّع مباهجها

41
40
41
مواضيع ذات صلة

بدا الجميع في المقهى ألطف من العادة، موظفين وزبائن دائمين. كان، أمس الخميس، اليوم الأخير المتاح لفنجان قهوة في "البيسترو" الباريسي، قبل العودة إلى الحجر لأربعة أسابيع قابلة للتجديد. كأننا جميعاً، الجالسين إلى الطاولات الصغيرة وحاملي الصواني، عُصبة سرية ما، يجمعنا استمتاعنا الحزين بآخر المباهج الفرنسية الصغيرة، إلى حين. وكلما غادر أحدنا المكان، تبادل مع النادلة كلمات وداع مؤقت وتمنيات بلقاء قريب، عبارات امتزجت بشيء من الحسرة والكثير من التشجيع المازح.

هكذا تعود فرنسا إلى الحجر، أسوة بالعديد من الدول الأوروبية، وبأثر من الموجة الثانية لتفشي كورونا. تفوّق هذا الخريف، بأرقام الإصابات والوفيات، على ذروة الربيع الماضي حينما طُبّق الحجرالكامل للمرة الأولى. وإن أتى الحجر الثاني بقيود أخفّ، فإنه ما زال ذا وطأة على المزاج العام. وكأن الناس الخارجين من حجر الربيع بـ"تروما" نفسية واقتصادية واجتماعية، يضطرون إلى عيش الموقف/التحدي ثانيةً. و"التروما"، دينامية بدَفعٍ ذاتي، لا تكبح الإجراءاتُ المخففةُ خرمشاتها إلا قليلاً.

ولعل أبرز الأحكام المخففة هذه المرة، هو بقاء الحضانات والمدارس مفتوحة. هذا تفصيل ليس صغيراً بالنسبة إلى العائلات، خصوصاً حيث الأطفال صغار. عمل الوالِدين أو أحدهما، من البيت، شبه إجباري، إلا باستثناءات حددتها الدولة بوضوح. العمل من بُعد، بساعاته الطويلة أمام الكومبيوتر واجتماعات الـ"زووم" والاتصالات الهاتفية..، ما امتزج بمكوث الأولاد في البيت إلا وتفجّر في لحظة ما. الكل تعلّم من التجربة الماضية، الأهل والأولاد والأفراد والدولة. المسنّون في دور رعايتهم، مثلهم مثل الأطفال، يُعفَون هذه المرة من العزلة، إذ تم الإبقاء على إتاحة زياراتهم، مع التشدد في إجراءات مكافحة العدوى.

الحجر يكتسب شخصيته، يتطوّر، يزداد حنوّاً وحكمة.

ثمة من يرى إن الدولة تكرس دورها كأمٍّ/راعية للفئات الأضعف، وفي الوقت نفسه كمُربِّية تتخذ قرارات الصالح العام نيابة عن قُصَّر، وإن بعد التشاور مع المجالس المنتخبة ووفود الأحزاب. الانصياع لمحدّدات الحركة والتجول والاختلاط، ليس سهلاً في مجتمع حرّ، مدمن على حق النقد، حتى ولو كانت الضوابط من أجل صحته وأمنه، وحتى بعد أن يعترف الجميع بنماذج المتراخين في تطبيق إجراءات كوفيد منذ الحجر الأول، سواء في طُرق ارتداء الكمامة أو الالتزام بالتعقيم والتباعد.

أرقام كورونا المتفاقمة الآن، دفعت إلى فرض الكمّامات على الأطفال ابتداء من سنّ ستة أعوام بدلاً من ثمانية، مع المزيد من التشدد في الإجراءات والتباعد داخل المدارس (لا اختلاط بين التلامذة الصغار والكبار، لا خروج إلا مقنناً للملعب،..).

المدرسة إذن، تبقى وتسود، كمؤسسة لا غنى عنها، مثل السوبرماركت والصيدلية، "من أجل الاستمرارية البيداغوجية" بحسب الإعلان الرسمي. لكن نكتة جدية جداً تُتداول عن أن الحرية الوحيدة المكفولة الآن هي حرية العمل! وتجد الدعابة استكمالها في الواقع، مع استثناء المحلات المتخصصة في صيانة وإكسسوارات أجهزة الكومبيوتر، من الإقفال. الكومبيوتر، كالمدرسة ومتاجر أدوات التصليحات المنزلية وبائعي التبغ وشبان إيصال المشتريات إلى المنازل، ترياق صمود في المحابس الطوعية.. أم أنها قسرية؟ وصورة الحجر العائدة، هل هي صورة احتمائنا بقِلاعنا الصغيرة من المرض، أم هو الأَسْر الذي تضبطنا فيه السلطة في مقابل فدية تخفيف الضغط عن القطاع الصحي؟ ذلك أن ثمة مَن يجادل في أنه لو حظي هذا القطاع باهتمام صادق ومعمّق، خلال السنوات الأخيرة، وبعيداً من "شبح الخصخصة"، لكانت طاقاته اليوم أكبر وأقوى، ولما دفع الفرنسيون الثمن من حريتهم ومداخيلهم.

تعويضات البطالة الجزئية.. حوافز ضريبية لأصحاب البيوت إن تنازلوا عن تقاضي إيجارات الأشهر الثلاثة المقبلة.. الإعلان عن ضخّ المزيد من الأموال في المؤسسات الطبية وتوسيع مشاريع تدريب الطواقم.. مبادرات لا تقنع المحتجين بالكامل. ليس سهلاً إرضاء الفرنسيين. لكن هل من مسرب بديل لتصريف القلق؟ لعنُ القدَر؟ الصين؟ الوطواط الأول؟ ليس في فرنسا. هنا، علاقة الجمهورية والناس أشبه بالزواج ذي الدعامات المتينة، من حب وتفاهم وتوافق على الأسس، لكن الاحتكاكات الحتمية طبيعة ثانية للعلاقة.

عشية سريان الحجر الثاني، خرجت تظاهرات رافضة، في باريس وتولوز وكاستر. الأرجح أن المتظاهرين كانوا يعلمون أن لا طائل من خروجهم، ومع ذلك نزلوا إلى الشارع. وثمة من سار في تظاهراته الصغيرة الخاصة. صديقة ودّعت صالة السينما، الساعة التاسعة إلا ربعاً من صباح الخميس، بمشاهدة الوثائقي الفرنسي الذي انطلقت عروضه حديثاً Un Pays Qui Se Tient Sage (بلد يقعد عاقلاً) والذي يناقش إشكاليات عنف الدولة والشرعية، الحريات والسياسة والتجمّعات في مشبك السلطة والديموقراطية، والشرطة.. هل يجب أن تدافع عن النظام أم الناس؟ وفي وجه مَن؟ حجر كوفيد، مشاعره ومفاهيمه، ليس بعيداً من هذا الجو. ثم من السينما، اتجهت الصديقة إلى المكتبة مباشرة، مدفوعة بِطاقَة حرياتية طازجة.. لأَجَلٍ مسمّى بأقل من 24 ساعة.

لكن الحلاقين هم الذين استأثروا تقريباً بنجومية الخميس الأخير. الزحمة داخل محلاتهم مشهد لوحده. أما الطوابير خارجها، فأشبه بصفوف المنتظرين أمام مراكز فحوص PCR المجانية. مجدداً، الكل تعلّم من إقفالات الربيع. الحجر بمظهر مشذّب أكثر قابلية للاحتمال من الحجر بمظهر مشعث. البلد استعد لأن "يقعد عاقلاً"، وباريس ودّعت مباهجها، إلا ما أمكن اختطافه خلال ساعة من الزمن في محيط كيلومتر واحد من البيت. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد