: آخر تحديث

ليته كان إسلاماً سياسياً..

46
40
39
مواضيع ذات صلة

ثمة تفصيل صغير-كبير، كان ليصنع كل الفرق في قضية الرسوم "المسيئة للنبي محمد" في صحيفة "شارلي ايبدو" الفرنسية الساخرة، وتبعاتها، منذ الهجوم الأول على مقر الصحيفة العام 2015 في باريس واغتيال عدد من رساميها، وصولاً إلى ذبح أستاذ المدرسة سامويل باتي. وهذا التفصيل يلمس غيابَه الآسر، مَن يراقب تطور الخطاب المناهض لهذه الرسوم، والمُفكّك لمسألة حرية التعبير في فرنسا، سواء بالشقّ الإسلامي المتشدد لهذا الخطاب، داخل فرنسا وخارجها، أو ذاك الذي يدفع به علمانيون ومثقفون ويساريون يستنكرون جريمة باتي وما سبقها، لكنهم يتوقفون عند "معايير ملتبسة" للجمهورية الفرنسية في ما يتعلق باحترام مشاعر فئات دينية وثقافية. التفصيل المقصود يتمثل في السياسة المُفتقدة بشدة.

والحال إن تعبير "الإسلام السياسي" ليس هو الطاغي في أدبيات المسؤولين الفرنسيين ومواطنيهم المرعوبين والغاضبين إثر جريمة مقتل باتي. صحيح أن التعبير مستخدم، وليس عن عبث، إذ طرحت هذه الجريمة، الإسلام في فرنسا، كمعضلة تضع قيم الجمهورية والعلمانية والحريات العزيزة جداً على قلوب الفرنسيين ووجدانهم الوطني، على المحك، إضافة إلى تحديات الأمن والقطاع التربوي واليافعين وهجرة فرنسيين للقتال مع "داعش" وبعض السياسة الخارجية، وصولاً إلى جدلية ما يجب أن يُراقب أو لا يُراقب في وسائل التواصل الاجتماعي والجمعيات ودور العبادة، وكيف، وبأي ثمن... أي الإسلام كإشكالية سياسية في المقام الأول. لكن تعبير "الإسلام السياسي"، تُستخدم بموازاته أيضاً، في الإعلام والأدبيات الرسمية، مصطلحات من قبيل islamisme (الإسلام الأصولي أو المتشدد)، والإرهاب، والتعصّب، والكراهية. وهذا ما لا ينافي الدقة في شيء.

ومن جهة ثانية، هناك الخطاب الإسلامي الذي يشهد الآن تدويلاً مغرضاً ومشبوهاً، لن ينفع مسلمي فرنسا في شيء، بل على العكس سيضرّهم إذ يضيّق عليه الزاوية الضيقة أصلاً حيث هم الآن، بين الإسلام المتطرف واليمين المتطرف. هذا الخطاب هو الذي يطرح إسلاماً سياسياً خطيراً، بدلاً من تسييسه بالطريقة التي تتيح تصديق المقولات الدفاعية المنتشرة، من قبيل "هذا (الإرهاب/الكره) ليس الإسلام" و"القاتل الشيشاني ليس كل المسلمين". إنه الإسلام السياسي بالمعنى الذي يجعله مباحاً للاستخدام السياسي العصبوي من قبل زعيم شعبوي مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وفي ظل الحملات المنتشرة في أنحاء العالم العربي والإسلامي لمقاطعة البضائع الفرنسية، مع تظاهرات احتجاجية ترفع شعار "إلا رسول الله" وأحياناً "إلا الحبيب يا عباد الصليب"، هو الإسلام السياسي بالمعنى المنفّر كأنتي-سياسة: الهوية المستقاة كلياً من الانتماء الديني وتحقير كل آخر، إضافة إلى تجيير أحد أساليب الاحتجاج السلمي والمدني (المقاطعة) لخدمة هذه الهوياتية الاختزالية، في بلدان لا يتمتع جزء كبير من سكانها بالقدرة الشرائية لحيازة المنتجات الفرنسية أصلاً، مثل بنغلادش، ولبنان، وفلسطين، واليمن...! وبدلاً من أن تكون القضية برمّتها مدخلاً لنبذ "الأنا المُسلمة فحسب"، لصالح نقاش التحديات التي تواجهها الجماعات المسلمة في فرنسا والغرب عموماً، وما قد تعانيه من تهميش وتمييز (ومثلهم فئات وجماعات أخرى تتعرض لتبعات الفوارق الطبقية والمناطقية وانكماش الفرص وذيول التاريخ الاستعماري). بل إن "اتحاد خطباء وأئمة فرنسا"، المفترض أنه من أوائل المعنيين بالاحتكاك الثقافي والأمني الحالي، هو الذي أبرز خطاباً متقدماً (في اللغة على الأقل وتبقى مراقبة الأداء) على الحملة الدولية البائسة ضد فرنسا. إذ اعتبر "الاتحاد"، باتي، "شهيد الحرية"، ودعا إلى الالتفاف على الإسلام الراديكالي الذي يجب ألا يختطف المسلمين في فرنسا.

والمفارقة الأكبر إن الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، دوناً عن المستنكرين من مسلمين وصانعي رأي، هو الذي تطرق إلى الجزئية السياسية ذات المعنى، وذلك في خطابه خلال حفلة تأبين سامويل باتي حين قال: "لن نتخلى عن الرسوم والكاريكاتور، وسنقدم كل الفرص التي يجب على الجمهورية أن تقدمها لشبابها من دون تمييز أو تهميش، سنواصل أيها المعلم، مع كل الأساتذة والمعلمين في فرنسا، سنعلم التاريخ مجده وشقّه المظلم، وسنعلم الأدب والموسيقى والروح والفكر".

ولعل خطاب الناشطين غير المتدينين، وعدد من المثقفين والأكاديميين مسلمين وغير مسلمين، يساريين و"ما بعد كولونياليين" وتنويعات...، يتميز بسِمَةٍ إضافية إلى ما سبق: اليهود، قانون تجريم إنكار الهولوكوست، والتذكير بالقضية الفلسطينية باعتبارها الأجدر بأولوية الخطاب الإسلامي المتنور من رسوم تتناول نبي الإسلام. وهنا الفخ السهل الممتنع. والإجابة، على بساطتها، لا تبدو بديهية لهؤلاء: أولاً، إن "شارلي ايبدو" لم توفر اليهود والمسيحيين ومعتقداتهم ورموزهم الدينية من السخرية. بل إن كاتباً ورسام كاريكاتور كتب في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية إنه لطالما تابع الرسام اليهودي جورج ولينسكي، الذي قُتل خلال إحدى الهجمات على "شارلي ايبدو"، وكان بطله الثقافي بجرأته وكسره للمحرّمات. لكن ولينسكي، بحسب الكاتب، إن أتى للاستقرار في إسرائيل، سيصطدم بقوانين تمنع الإساءة إلى مشاعر المؤمنين. ذلك أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وبعد حادثة خطف وقتل يهود في "سوبرماركت للبضائع الكوشر" في باريس، العام 2015، دعا اليهود إلى القدوم لإسرائيل ليأمنوا على أنفسهم، إلا أن الكيان الإسرائيلي، بحسب الكاتب، ما كان ليؤمن لهم الحرية التي تؤمنها لهم فرنسا في انتقاد كل شيء، بما في ذلك مقدّسات "أبناء قومهم"، إذ لا مقدّسات تحت شمس التعبير الحر.
في حين أن السخرية من المسيحية بلغت ذروتها العام الماضي، حينما رسمت المسيح المصلوب، عيناه مغمضتان بخصيتين، وأنفه عبارة عن قضيب، وذلك تعقيباً على ما تسرب من فضائح اعتداءات جنسية وبيدوفيليا في صفوف الكهنوت المسيحي والمؤسسات الكنسية. 

أما قانون تجريم إنكار الهولوكوست، فلا يُقارن بأي شكل من الأشكال، بالمطالبة بتجريم "الاعتداء على المقدسات". فالمحرقة النازية حدث تاريخي، جلادوه بشر، وضحاياه بشر، وقد أفرز ما أفرز في السياسة والثقافة والتاريخ. وبشيء من التبسيط، قد يُرى إنكارها، بعد السقطة  الأخلاقية، وبمفردات راهنة، نوعاً من الـfake news والتزوير، كإنكار فيروس الكورونا أو اعتبار لقاحات الأطفال مؤامرة! في حين أن الأنبياء والآلهة يفترض أنهم لا يحتاجون إلى من يدافع عنهم، وهم رُعاة المؤمنين بهم لا العكس، يفترض أنهم لا-تاريخيين ولا-زمنيين، تبقى منهم العقيدة، بعد آلاف السنين، وثمة من يناجيهم الآن: "فداك أبي وأمي يا رسول الله"!

والعكس ينطبق على القضية الفلسطينية، إذ أن جعلها قضية لخطاب ووجدان إسلامي فحسب، هو الظلم بعينه، للقضية التاريخية وناسها. هو الظلم نفسه الذي يوقعه الإسلام بناسه حين يستحوذ عليهم، بمواطنيتهم (الفرنسية وسواها) وفردياتهم وقضاياهم الاقتصادية والاجتماعية: ظلم نزع السياسة عنهم.. إلا ما قَدَّر الله.



عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد