: آخر تحديث

كم كان الطريق طويلاً وشاقاً

44
48
55
مواضيع ذات صلة

كانت المرحومة أمي تقول دائماً: «لا تبحث عما لا تجده، لا ترهق نفسك كثيراً، فلن تعثر عليه. سيملّ هو من غربته ووحدته، وسيأتي نحوك وسيجدك لا محالة».

اليوم السبت، نهاية أسبوع شاق بوباء يحاصرنا وعمل متعب، في مدينة (باريس) يحاصرها الوباء من كل جهة بأرقامه المفجعة: 30 ألف إصابة يومياً.

أغرق في أشيائي الصغيرة منذ الفجر لترتيب فوضى الأسبوع، لم أكن أبحث عن شيء بعينه.

وفجأة أكاد أصرخ: أوريكا.. أوريكا.. أوريكا.. وجدتها.. وجدتها.. فجأة أصبح أرخميدس Archimède صديقي الصدوق، فصرخت صرخته المشهورة: «أوريكا، أوريكا.. وجدتها، وجدتها»، تلك المخطوطة الهاربة منذ زمن بعيد (ولو في تدوينها الجزئي على الحاسوب، لأن الأصل الخطي ما يزال ضائعاً)، أول محاولة روائية: الطريق الطويل، كتبتها وكان ذلك في 20 أكتوبر 1971 كما هو مدون على الصفحة الأولى!

كل شيء بدأ في ثانوية «ابن زرجب - تلمسان» وملحقتها، مدرسة الشرطة كما كانت تسمى، وهي عبارة عن بناية كولونيالية كبيرة، تشبه القلعة، تنتشر من حولها قاعات الدروس.

ذات يوم من أيام شهر رمضان الكريم ـ أكتوبر من عام 1971، طلب مني الأصدقاء أن أحكي لهم حكاية في الفترة الفاصلة بين الإفطار والسحور، كنا في النظام الداخلي الصارم، بعد الإفطار نخرج من المطعم، نلعب لمدة ساعة، قبل أن ندخل للأقسام لإنجاز تماريننا وفروضنا، يأتي بعدها السحور، نأكل ثم ننتظم في صف طويل، ونصعد نحو المراقد في البناية التي تشبه القلعة.

في الفسحة الفاصلة وبرد الخريف، كنا نحن الخمسة من القرّاء ومحبّي الأدب، ننعزل عن الكل، ونتخفى داخل قاعة فارغة ونجلس هناك، وأبدأ الحكاية، وكنت أملك قوة إيقافها في الوقت الحرج، فأقول لهم ما كانت تقوله شهرزاد لشهريار: غداً إذا منحنا الله بعض عمر، سأتمّها، وهي مكتوبة، لم تكن مكتوبة طبعاً، كنت أكذب.

في اليوم الموالي، أدوّن كل ما رويته، حتى بلغت القصة نهايتها، ثم ضاعت هذه المخطوطة المكتوبة على كراسة طفولية، بسبب كثرة الترحال، إلى اليوم لا أعرف أين هي المخطوطة المكتوبة بيدي، من حسن الحظ أني كتبت جزءاً منها على الحاسوب، هذا الجزء وجدته ووجدت بعض صور المخطوطة.

أقرأ.. أضحك من سذاجتي، لكني أدرك في النهاية أن شيئاً ما كان يكبر في داخلي، لم أتبينه جيداً وقتها: الكتابة، القصة ترسم برومانسية، نضال والدي في الحركة الوطنية، استفدت من روايات أمي وجدتي وخالاتي، وبعض أصدقاء والدي الذين كانوا معه في الأسْر، صنعت له في الرواية، نهاية غير النهاية الحقيقية، فقد استشهد تحت التعذيب، لكني جعلته يقاتل باستماتة، حتى استشهد وسلاحه في يده، لا أدري لماذا؟ ربما لأني كنت أرفض المعتقل، رأيت فيه مؤسسة مهينة، تسرق كرامة الإنسان وحريته، قبل روحه، وربما لهذا أيضاً أصبحت الحرية مقرونة بالكتابة، ومقدسة، لا أرى أي جهد خارجها، ربما..


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد