: آخر تحديث

حرف المبادئ والثقافة 

61
71
61
مواضيع ذات صلة

 علي محمد فخرو

هناك إشكالية ثقافية سياسية عند أصحاب القرار، سواء بالأصالة أو بالوكالة، في بعض أنظمة الحكم العربية، إذ لا يمكن تفسير التلاعب والتردُّد الذي يمارسه هؤلاء، بينما تجوب الشوارع الجماهير الشعبية الغاضبة أسبوعاً بعد أسبوع من دون أن ترى في الأفق حلاًّ مرضياً يلبّي مطالبها وشعاراتها الأساسية، إذ لا يمكن تفسير ذلك إلا بوجود تلك الإشكالية الثقافية التي تهيمن على عقول وضمائر أصحاب القرار.
فأصحاب القرار لا يريدون أن ينسوا الدرس الأساسي الذي غرسه الاستعمار في عقولهم قبل رحيله منذ عشرات العقود، والقاضي ببناء دولة قمعية من خلال مؤسسات غير شرعية، تحكم سكاناً ورعايا من البشر وليس من المواطنين. ومن أجل أن تحكم، وتدير بتلك الصورة القمعية عليها أن تحرف مفاهيم وتروّجها على أوسع نطاق وبشتّى الوسائل.

من أبرز التحريفات كانت القراءة الخاطئة لمعاني إطاعة وليّ الأمر، التي أسّس لها بعض علماء السّلاطين في الماضي ، ورفعوها على أنها حكمة إلهية في وجه كل من حاول قراءتها بصورة مختلفة.
ولقد بنت تلك القراءة، عبر القرون، عقلية جمعية تضُّج بالدعاء والشكر لمكرمات ولي الأمر، وتقنع نفسها بالصبر على ارتكابه الأخطاء والخطايا تجاه عموم رعاياه. ثم وجدت في بعض الفلسفات الغربية، التي تتحدث عن الضرورات الطبيعية في تكوين البشر وعن إرادة القوة وشعارات البقاء للأقوى، مجالاً آخر لتحريفات فكرية حديثة تضيفها للتحريفات الدينية الفقهية.
من منطلقات التحريفات الفكرية والدينية تلك لا يستغرب الإنسان أن تكون اقتناعات أصحاب القرار تقبل مقولات من مثل أنه لا توجد مصادر رزق معيشية كافية للجميع، ولذا فإن الصبر ضرورة من قبل المشتكين على تواجد الحرمان والفروقات في مجتمعاتهم، أو من مثل أن منطق الحياة يقوم على التزاحم والتنافس، ومن ثم صعود البعض وهبوط البعض الآخر، أو من مثل أن للقانون قدسية مجتمعية حتى لو كان قانوناً تعسّفياً غير عادل، أو من مثل أن فقر الفقراء هو بسبب كسلهم ومحدودية طموحاتهم، وليس بسبب ظروفهم الحياتية وحرمانهم من الفرص المتساوية، أو من مثل التبنّي الكامل الأعمى لشعارات وقيم وأخلاق وتابعية الرأسمالية النيوليبرالية العولمية التي لا تقبل إلا بقيم حرية الأسواق، وتنامي ثروة الأغنياء، والاستهلاك النهم المجنون الذي يؤدي إلى تراكم الديون على الطبقة الفقيرة لمصلحة مؤسسات الغنى الفاحش.
عندما تترسخ تلك المقولات في أذهان أصحاب القرار، لتصبح ثقافة تضبط قراراتهم وسلوكياتهم، وتتناقلها بقبول صامت الأوساط القبلية والعسكرية والأمنية الاستخباراتية والحزبية الفاشية، وكثير من مؤسسات الفقه المذهبي، وتباركها قوى ومؤسسات الاستعمار الناهب النهم الفاقد لقيم الضمير والأخلاق.. تنقلب تلك الثقافة السياسية إلى تكوين طبيعي مقبول لشخصية الكثيرين من أصحاب القرار.
ولذا ليس بمستغرب أن نرى ذلك التلكّؤ في اتخاذ أي قرارات أو في الإقدام على أي خطوات لإرضاء ملايين الجموع الصاخبة الغاضبة المنهكة اليائسة التي تجوب الآن شوارع مدن بعض بلاد العرب، والتي قد تجوب شوارع مدن أخرى في المستقبل القريب.
من هنا المسرحيات الهزلية اليومية بشأن تسمية رئيس مقبول للحكومة، أو تعديلات جذرية في القوانين، أو إعداد لانتخابات جديدة نزيهة تنقل المطالب الجماهيرية من شعارات إلى واقع في المستقبل المنظور.
من هنا ندور في حلقة مفرغة بين بلادات أنظمة الحكم ويأس الملايين في الشوارع.

ما يحز في النفس أن أصحاب القرار ما عادت تحركهم أو تقلقهم مشاهد ملايين الأطفال العرب الذين لا يجدون مدارس يرتادونها، ولا مشاهد الجوع والعري والسَّكن في الشوارع أو في خرائب دمار الحروب والصّراعات، ولا مناظر الملايين الهاربين إلى منافي العالم ومآسي الغربة. كل ما يهمهم هو التوازنات المذهبية والحزبية والعرقية، وعدم المساس بالامتيازات غير العادلة. ولذلك تؤجَّل القرارات أسبوعاً بعد أسبوع، وترحّل الأسماء شهراً بعد شهر، وتعقد الاجتماعات المظهرية التي لا تنتج إلا الغبار الكلامي واللُّغة الخشبية إياها التي نجحت الدولة العربية القمعية الحديثة في جعلها خطاباً يقود إلى النُّعاس، ثم النّوم، ثم السُكون الممل البائس.
إن لم تتغير بصورة جذرية تلك الثقافة السياسية المنحرفة، فإن المشهد العربي سيظلُّ يدور حول نفسه، وحول مستقبله الخازن لمفاجآت كارثية.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد