: آخر تحديث

حتى تكون هيئة انتخابات تونس "عُليا ومستقلة"  

74
85
77
مواضيع ذات صلة

حتى تكون هيئة انتخابات تونس "عُليا ومستقلة"

رأسمال المؤسسات الدستورية كامن في الثقة الجماعية فيها، لأنه لا ديمقراطية دون هيئة انتخابية عليا ومستقلة، خطابا وأداء.

 على أعتاب مشهد تشريعيّ مهزوز

 أمين بن مسعود

إن صحّ مضمون ما تم نقله عن العضوين البارزين في هيئة الانتخابات التونسية، نبيل العزيزي وعادل البرينصي، عن حدوث تجاوزات إدارية وماليّة ورقابيّة من قبل رئيسها نبيل بفون، فالأمر يستحق التوقف مليا، ليس فقط لأنّ الاتهامات آتية من شخصيتين على دراية بالمطبخ الداخلي للهيئة، بل لأنّ الأمر يمسّ في الصميم مصداقيّة هيئة انتخابية، ائتمنها التونسيون على مهمّة إنجاح الاستحقاقات الانتخابية المفصلية في تاريخ البلاد والعباد.

قد تذهب بعض القراءات إلى وضع الاتهامات الخطيرة التي وصلت إلى مستوى الإشارة إلى تدخّل أميركي غير رسميّ في الشأن الانتخابي التونسيّ، في سياق المناكفات والمُشادات التي قد تحصل ضمن فريق واحد اشتغل تحت إكراهات الداخل والخارج، سيما وأنّ بفون يستعد للمغادرة في حين أنّ ولاية البرينصي والعزيزي مستمرة إلى 2023، لكن تزامن التصريحات مع المصادقة النهائية على نتائج الانتخابات البرلمانية، يحمل في سياقاته عدّة مضامين ودلالات لا بد من استقرائها جيدا.

لن نطعن في مصداقية نتائج الانتخابات البرلمانية، فهذا من عمل القضاء المستقل والحرّ والناجز، ولن نشكّك أيضا في أمانة وإخلاص الفريق العامل في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، لكن من حقنا في المُقابل أن نتساءل وأن نستفسر جديّا حول مصداقيّة المؤسسة الدستورية المُشرفة على كافة الاستحقاقات الاقتراعية، سيّما وأنّ فرضية إعادة الانتخابات البرلمانية جدّ واردة، ولأنّ مقدّمة نزاهة ومصداقية وشفافية الهيئات الدستورية هي اللبنة الشرطيّة لأيّ انتقال ديمقراطيّ سلس وهادئ ومسؤول.

تُمثل هيئة الانتخابات، واحدة من الهيئات الدستورية التي حافظت نسبيا على ثقة التونسيين وتوافقهم عليها، بالمُقارنة مع الهيئات الدستورية الأخرى على غرار هيئة الحقيقة والكرامة وهيئة مُكافحة الفساد وبدرجة أقل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصريّ، وجلّها عرف عملها تجاذبا كبيرا بين “الفاعلين والمؤثرين” ما أحدث تذبذبا وتشويشا في مستوى تقبّل الرأي العامّ لأدائها الإشرافيّ والرقابيّ.

فعلى الرغم من بعض الاضطرابات، التي حصلت خلال سنتي 2017 و2018، وهي اضطرابات كان عنوانها الأبرز رئاسة مجلس الهيئة، إلا أنّ الوضع بقي تحت السيطرة، ولم يتسرب إلى خارج أسوار هيئة الانتخابات.

لعبت هيئة الانتخابات في الفترة الأخيرة أدوارا رمزية جدّ مهمّة ساهمت في تجاوز تونس أزمة الرحيل المفاجئ للرئيس الباجي قايد السبسي، حيث تمكنت بسلاسة ومهنية من إعادة تأثيث الرزنامة الانتخابية، كما تعاملت بشكل مهني مع حدث المُناظرة التلفزيونية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

إلا أنّ مؤشرين بارزين كانا يطلان برأسيهما من شقّ جدار “التفاهم الظاهر والمعلن” لمجلس الهيئة، ليشيرا إلى أنّ البيت الانتخابي الداخلي أصابه وهن الشقوق والمناكفات.

المؤشر الأوّل، متمثل في إعفاء حسناء بن سليمان من منصب المتحدث باسم الهيئة وتعميم هذه “الوظيفة الإعلامية والاتصالية” على جميع الأعضاء. والمؤشر الثاني، الذي كان نتيجة للأول، متجسّد في اللخبطة الإعلامية والاتصالية التي عرفتها الهيئة ما بين مُثبت وناف لذات المعطيات، إلى درجة أنّ النقاط الإعلامية باتت مجالا لدحض ما يُنسب للمسؤولين في الهيئة في وقت سابق.

وإذا ما أضفنا لهذين المؤشرين التجاذب الواضح والجلي بين هيئة الانتخابات وهيئة السمعي البصري حيال التجاوزات الدعائيّة لبعض المترشحين، فإنّ التذبذب والاضطراب تجاوزا البُعد الداخلي نحو “البين مؤسساتي”.

جاءت تصريحات البرينصي والعزيزي، لتثبت ما كان محلّ شكّ وتنسيب وتؤكّد أنّ الأوضاع في هيئة الانتخابات تحتاج إلى مُراجعة دقيقة وصارمة قبل فوات الأوان.

وبعبارة أدق، لئن تجاوزت تونس هذا الاستحقاق الانتخابي الأخير، بفعل الحسم الاقتراعي، الذي جاء واضح المعالم والرسالة والمقاصد، فإنّ المسألة قد تكون أكثر تعقيدا وخطورة في حال ما كانت المنافسة أشدّ والرهانات أكبر والهيئة الانتخابية على حالتها هذه من التجاذب والوهن.

وبعبارة أوضح أيضا، فإنّ تونس التي تقف اليوم على أعتاب مشهد تشريعيّ مهزوز من خلال أرخبيل من الجزر البرلمانية المتناحرة، تحتاج إلى هيئة انتخابات تستحق وصف الاستقلالية في عملها وتستحق نعت العُليا في مرجعية عملها للدستور والقانون.

فكلّما اتسم المشهد السياسي بالأدلجة والشعبوية وبالسرديات المتناقضة، كلّما كانت الحاجة أمسّ وأدقّ للهيئات الدستورية المستقلة، المستأمنة على تحكيم العدل وتأمين التعديل بفعل ما تحتويه من حكمة ورصانة ومسؤولية.

أن يفتقد المشهد السياسي التونسي للمحكمة الدستورية، وأن يفقد تدريجيا الثقل الرمزي والوزن التجميعي لهيئة الانتخابات، فهي مؤشرات لا بد أن ندقّ حيالها ناقوس الخطر.

من حقّ نبيل بفون أن يلجأ إلى القضاء لردّ الاعتبار الرمزي والمادي لشخصه، ومن حقّ الأعضاء الآخرين أن يقيموا المسيرة الانتخابية بكثير من التحفظ والاحتراز، لكن في المُقابل من حق الرأي العام أن يعرف الحقيقة كلها وأن يتيقن بأنّ إرادته لم تذهب هباء منثورا وأنّ الانتخابات لم تكن حصان طروادة للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية.

كل هذه الأمور تقتضي مُراجعة كاملة لعمل الهيئة ونقدا ذاتيا للأخطاء والشوائب التي حصلت، وتجاوزا سريعا لها، ليس فقط لأنّ الاستحقاقات الانتخابية قد تحصل بين الفينة والأخرى، بل أيضا لأنّ رأسمال المؤسسات الدستورية كامن في الثقة الجماعية فيها، ولأنه لا ديمقراطية دون هيئة انتخابية عليا ومستقلة، خطابا وأداء.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد