: آخر تحديث

«الذبابة» في صحن الحساء اليمني

62
59
65
مواضيع ذات صلة

 جاسر الحربش 

من كان يصدق أن عربيا أصيلا من جبال اليمن يمكن أن يخضع لبرمجة سياسية مذهبية في إيران الولي الفقيه، ثم يعود إلى أهله وقد غير مذهبه الديني وولاءه الوطني والقومي؟ أول من كان ليكذب هذا الاحتمال هو المواطن اليمني نفسه، ولكن هذا فعلا ما حصل.


الهالك بدر الدين الحوثي اليمني الجبلي ذهب أيام الخميني إلى إيران وتتلمذ في قم وغير جلده وقلبه ثم عاد بطموح شخصي في الإمامة المذهبية وحكم اليمن مع طموح كفيله الإيراني ليفتح له الطريق كعربي من اليمن إلى الديار المقدسة في السعودية. لكنه اليمن، وتحديدا الشطر الشمالي منه الذي يحتمل ويتحمل التقلبات والصراعات والطموحات على حسابه كوطن، وعلى حساب مستقبل تعبث به الطموحات الشخصية والفئوية. اليمن الشمالي بتنوعاته الاجتماعية يشبه صحن الحساء، فيه السائل الذي يسبح فيه الجميع إلى جانب أنواع الخضروات والبهارات الحارقة ومنذ عشرات القرون. صحن الحساء اليمني بقي على الأقل في بعض أوقاته مستساغ الطعم على رغم كثرة البهارات الحارقة فيه لأنه بقي لأهله اليمنيين، ثم حطت الذبابة الحوثية في الصحن ولوثته بالمايكروب الإيراني.

تغيرت أحوال اليمن بطريقة دراماتيكية منذ حطت الحوثية فيه لأنها ملوثة في أحد جناحيها بالبكتيريا العنصرية الفارسية وفي الآخر بطموح الحوثي نفسه باستعادة الإمامة الدارسة تحت إمرته وسلطاته. اليمن الذي كان منهكا برئيس دكتاتوري يحكم بطريقة «الرقص مع الأفاعي» لم يستطع مقاومة العدوى الحوثية الإيرانية فأصيب بمرض فتاك جديد لم يكن من تاريخه القديم.

جغرافيا وسكانيا يتكون اليمن الشمالي من جبل وسهل وساحل، لها اللغة والعادات والتقاليد نفسها، ولكن لكل منطقة جغرافية تخصصها التاريخي الذي تتعامل وتتعايش به مع المناطق الأخرى. ما يجمع أهل الجبل والسهل هو التعصب القبلي بما يحمله من تنافس وتمايز وسهولة عقد المعاهدات ونقضها، من دون أن يجد اليمنيين غرابة في ذلك لأنهم تربوا عليه منذ مراحل الطفولة. أهل الساحل والأطراف من السهل البعيدة عن الجبل أصحاب تواصل مع العالم ومتاجرة وطلب علم وتجديد، وعندما تتوتر الأوضاع ويشح الرزق يهاجرون إلى بلاد الله الواسعة عبر البحار.

من يقرأ تاريخ اليمن يجد أن سكان الجبل كانوا دائما أهل حرب وأهل السهل أصحاب زراعة وإنتاج وحرف يدوية وتتناثر بداخل السهل تجمعات قبلية تعتاش من ومع المزارعين والتجار والحرفيين، بينما بقي أهل الساحل وأطراف السهل البعيدة على تواصلهم مع العالم الخارجي. من النادر في تاريخ اليمن حدوث غزوات من السهل أو من الساحل باتجاه الجبل، وكان العكس هو الصحيح لأن الغلة الزراعية والتجارية والصناعات الحرفية الاستهلاكية ليست متوافرة في الجبل بما يفي بحاجات أهله. هذه الخصوصيات المناطقية جعلت القبائل في السهل اليمني تستغل حاجة الزراع والتجار والحرفيين لمن يدافع عنهم ضد غزوات الجبل، فكانت عبر التاريخ تتنافس فيما بينها للحصول على المعاهدات المؤقتة والمقابل المادي والإتاوات، وكثيرا ما كان ذلك يحصل بالتفاهم مع أهل الجبل لاقتسام الغنائم. العاصمة المركزية صنعاء لم تكن لها سيطرة فعلية سوى على المحيط الضيق من حولها تمارسها بطريقة «الرقص مع الأفاعي»، ليس منذ عهد علي صالح، وإنما منذ عصور التبابعة.

أحوال اليمن هذه لم تمكن أهله من الاتفاق على وطن واحد متجانس تسيطر العاصمة صنعاء عليه بالكامل، على رغم المجاهرة والصراخ من كل الأطراف بحب الوطن وتدبيج الأغاني والأهازيج والقصائد والرقصات القتالية في حب اليمن والاستعداد للموت دفاعا عنه. في هذه الأجواء المزمنة المشحونة بالتقلبات كان لا بد من ملطف أو منشط أو مخدر أو أي شيء يجمع بين كل هذه المتطلبات، ولذلك أصبح اليمن أكبر زارع ومستهلك لشجرة القات وأفضل مبدع للشعر والغناء والعزف والرقصات الحربية.

الخلاصة: قدرات أهل اليمن الإنتاجية والإبداعية لا حدود لها بل وتفيض عن حاجاتهم، ويعرف اليمنيون وهم أهل الحكمة التي زكاها الرسول الكريم أن عليهم التخلص أولا من الذبابة الحوثية الفارسية التي سممت الأجواء وأدخلت اليمن في عداء مصيري لصالح إيران مع جيرانه العرب، ثم ليتفرغوا بعد ذلك لبناء مستقبل مستقر لأطفالهم في يمن لا يضطر فيه أحد لحمل سلاحه الشخصي على كتفه في الغدو والرواح.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد