: آخر تحديث

بهجة احتفال «العربيّة» في عصر الرطانة  

61
65
55
مواضيع ذات صلة

نسيم الخوري

هل صحيح بأنّه لم يبق لنا كعرب سوى اللغة العربيّة؟ 
نعم ربّما هذا صحيح في عصر من الاندثار الشامل، وانهيار العديد من السلطات العربيّة، تقفّياً لربيع العرب المتنقّل بربعهم وربوعهم ورعبهم أو الرعب منهم وعبورهم المتعثّر الذي لم يقبل أو يمضغ الانصياع إلى الغرباء عند بعثرة التاريخ وتهديدهم؛ لكونهم أصحاب براعة لمن يعرف القراءة الموزونة في التاريخ. حتّى اللغة صارت خائفة من البقاء، وهي لسان وكلام ولا قيمة لهما إن لم يكوّنا إنساناً عربيّاً منخرطاً في البحث عن بقايا العروبة وفلسطين ولسان الجدود بدأب وتجديد. قد لا تجد قرّاءً يشدّهم كلام من هذا النوع. كان لا بدّ من هرش الرأس وإيقاظ الخيال في عصر الرطانة الكبرى. يمكننا أن نتخيّل معاً جيوشاً وجماهير لا تعدّ من المفردات والكلمات التي يمكن أن تشاركك تكريمها بدلاً من جماهير العرب فتطرب أو تصفّق للندرة من حرّاسها الأقدمين والمعاصرين.
أتودّون معرفة عدد المفردات في اللغة العربيّة، مقارنةً بغيرها من اللغات، وبنقرة سبّابة فوق لوحة الكومبيوتر أو الخلوي أو الآي باد؟
اصغوا جيّداً:


هذا هو عدد المفردات أوّلاً في أبرز اللغات حول العالم:
- اللغة الإنجليزية 600 ألف كلمة
- اللغة الألمانية 160 ألف كلمة
- اللغة الفرنسية 150 ألف كلمة
- اللغة الروسية 130 ألف كلمة


أمّا عدد الكلمات في اللغة العربية - سواء المستخدمة منها أو المهملة- فتبلغ 12 مليوناً و33 ألف مفردة من دون تكرار، أي أنّها تبلغ 20 ضعف عدد كلمات اللغة الإنجليزية التي تمطّ قوتها وأعناقها اليوم، وتكاد تكتسح ألسنة الأرض وشهواتهم في التعبير والتواصل والتحضّر، ولا أشدّد على التفكير.
ما مناسبة هذا الاحتفاء بالعربيّة؟


عندما كان العالم يكرّم اللغة العربيّة فيحتفل بها لغةً رسميّة في الأمم المتّحدة (18 سبتمبر/أيلول 1973)، كان اللغوي العربي اللبناني/السوري المنشأ جوزيف ضاهر إلياس من جَنّين بعكّار يرتاد جنائن الأرض يشذّبها، ويبري أقلامه؛ بحثاً حتّى إعياء الشجر دفاعاً عن لسان العرب ولغتهم. هذا «الأصولي» لغةً كما يعلن عن نفسه، سكن منذ نصف قرن، وأسكننا معه مفكّرين وكتّاباً وإعلاميين في بيوت اللغة العربيّة وقواعدها ونحوها وصرفها وإعرابها وقد سكنته بدورها وارتاحت إليه وسلّمته مصيرها في انزياحات الألسن وتدمير الإعراب الرهيب. كرّمته الحركة الثقافية في إنطلياس في هذا العام 2019 في «اليوم العالمي للّغة العربيّة» من بين أعلام الثقافة في لبنان، دورة المعلّم بطرس البستاني. وكان الخوف من إعراض الجمهور عن مناسبة لغوية لها علاقة بلغة العرب كبيراً، فكان لا بدّ من استدعاء عظمة هذه اللغة كي تشغل الأمكنة والأذهان من جديد. 
لا يسقط اليراع من بين أصابعنا لتصويب أبسط خطأ لغوي تماماً كما الدكتور سليم الحص رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق الجاهز بقلمه الرصاص لتصويب أي خطأ سياسي أو اجتماعي أو إنساني. للغة الضاد أبراج قديمة رسوليّة مضيئة رفعها الكبار في دنيا العرب حجراً حجراً وكلمةً كلمةً تنطق بالدعوة إلى عشق العربيّة وصونها بالجفون؛ إذ لا تخرج الكلمة إلى النص والنشر من أبناء جيلنا إلاّ بعدما كنّا نحبل بها ونولّدها ونعطّرها ونلبسها أحسن الثياب الرسميّة السوداء؛ كي تحمل مع صديقاتها هيبة اللسان والفكر والحضارة العربيّة.
أرأيتم الأسباب التي تدفعني إلى القول إنّ اللغات تلحق بالدول حتى تسبقها نحو شعوب الأرض فتتلقفها وهي تضمر وتضعف بضعفها، بما يؤشّر إلى ميل القول بانهيار الحضارات والعربيّة وبالتحديد الحضارة العربيّة والإسلامية المتراجعة؛ بل المهملة في المجتمع الرابع الأمريكي الصيني -الروسي- الياباني أعني مجتمع العولمة الكوني الذي لا تغيب عنه الشمس؟
لا تحصى الندوب الكثيرة والانتقادات القاسية من كبار الصحفيين بحقّ الإعلاميين في لبنان ورطانتهم وضعفهم وميلهم إلى المحكيّات التي أخذت مداها الواسع وبدت ظاهرة خطرة تثير علامات الاستفهام والتقصي والتآمر، بعدما تخلّت الدولة اللبنانية في 23 أغسطس/آب 1985عن حقوقها في البث الفضائي إلى الإعلام الخاص. 


كان لاندلاع الحروب في لبنان منذ العام 1975 وما رافقها من انهيارات، نتائج أصابت العربيّة ما أصاب اللبنانيّين في اجتماعهم من التمزّق والانهيار والتراجع، وأسقطت اللغة رسمياً، وتساوت الطوائف المتعدّدة في تحقيق تغريب اللغة إلى أبعد الحدود، وعرف الإعلام الإذاعي والتلفزيوني «نهضةً» كبرى أدخلته في اعتماد المحادثات والصيغ المحكيّة المباشرة في مختلف المناسبات الرسميّة بدلاً من لغة الأدب والشعر. ويصبح الاحتفاء بمفردات العربيّة وإعجازها تعويضاً عن إهمالها وتأشيراً لمدى الأهمية التي لطالما سجّلها التاريخ ويفترض أن تسجّل لدور المسيحيين في المحافظة على اللغة العربيّة من التتريك وأصناف المستعمرين.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد