: آخر تحديث

الجزيرة والقارة

62
56
64
مواضيع ذات صلة

 محمد سيد رصاص  

تم غزو إنكلترا (أصبح اسمها بريطانيا العظمى في 1707 بعد اتحاد إنكلترا وويلز مع اسكوتلندا ثم أصبح الاسم هو المملكة المتحدة عام 1801 بعد الاتحاد مع إرلندا حتى انفصال الجمهورية الإرلندية عام 1922 من دون إرلندا الشمالية) عن طريق القارة الأوروبية مرات عدة (الرومان عام 43 قبل الميلاد -بدء غزو القبائل الجرمانية من الجوتس والأنكلز والساكسون بعد قليل من انسحاب القطعات الرومانية عام 410 ميلادية وهو ما استمر حتى القرن السابع الميلادي- غزو الدانيش من الدنمارك بين القرنين الثامن والعاشر- الغزو النورماندي عام 1066 من عند الساحل الفرنسي). في المقابل امتدت إنكلترا نحو الساحل الفرنسي في فترة حكم النورمانديين وهو ما أدى إلى حرب المئة عام 1337 – 1453 بين حكام إنكلترا وفرنسا والتي انتهت بهزيمة الإنكليز وفقدانهم ممتلكاتهم الفرنسية. كان الامتداد الثاني من الجزيرة نحو القارة في غزو النورماندي في 6 حزيران (يونيو) 1944 الذي قامت به قوات بريطانية - أميركية عند ساحل منطقة النورماندي في فرنسا المحتلة من الألمان. نشبت حروب عدة بين الجزيرة البريطانية ودول أوروبية، مع فرنسا (حرب السبع سنوات 1756 - 1763، مع نابليون بونابرت (1799-1815)، ومع الروس (حرب القرم 1853 -1856)، وهي كانت بداية التحالف الفرنسي – البريطاني الذي تجسد في الحربين العالميتين)، ثم مع الألمان (في الحربين العالميتين الأولى والثانية). فكر نابليون بونابرت في غزو الجزيرة البريطانية ثم عدل عن تلك "المخاطرة"، وهو ما تكرر مع إدولف هتلر، الذي استعاض عن ذلك، بعد احتلال فرنسا صيف1940، بغارات جوية مدمرة على بريطانيا من أجل إجبار ونستون تشرشل على تسوية ألمانية - بريطانية.


بعد هزيمة إنكلترا في حرب المئة عام نشبت حرب أهلية إنكليزية بين الملك والنبلاء سميت بحرب الوردتين (1455 - 1485) انتهت بانتصار الملك من آل تيودور واتجاه إنكلترا نحو نظام الملكية المطلقة، وهو ما أعقبه تحول إنكلترا بأنظارها نحو البحار بدلاً من البر الأوروبي، إذ دشن الإنكليز زعامتهم البحرية العالمية إثر معركة الأرمادا عام 1588بعد انتصارهم على الأسبان. من خلال ثورتين إنكليزيتين 1642 - 1649، و1688 - 1689، تم نزع الملكية المطلقة لمصلحة ملكية دستورية أصبح فيها الملك "يملك ولا يحكم"، فيما أصبح البرلمان هو الحاكم عبر أغلبية برلمانية تنبثق عنها الحكومة، وهو ما عكس القوة الاقتصادية، التي ترجمت إلى اجتماع وسياسة وثقافة، للتجار والصناعيين والرأسمالية الزراعية الذين قاموا عام 1642 بإطلاق ثورة البرلمان ضد الملك تشارلز الأول. كانت ثورة 1688 - 1689 ضد حكم أبناء تشارلز الأول (تشارلز الثاني وجيمس الثاني)، الذين استعادوا الملك عام 1660 بعد فشل حكم الثورة التي قطعت رأس والدهما عام1649، بسبب النظرة التي سادت في المجتمع الإنكليزي تجاه الأسرة الملكية من آل ستيوارت (1603 - 1689) بأنهم في حال تبعية للملك الفرنسي، الذي عاشوا في قصره لأحد عشر عاماً بعد اعدام والدهما، ثم عادوا متشبعين بالثقافة الفرنسية وتقاليد باريس، حيث كان تشارلز الثاني وجيمس الثاني يتكلمان الفرنسية لا الإنكليزية في القصر بلندن، وقد أظهر جيمس الثاني الكثير من المؤشرات على أنه يريد إعادة الكاثوليكية والعودة عن قرار الملك هنري الثامن عام 1534 بفصل كنيسة إنكلترا عن روما، وقد كان هذا أحد الأسباب لثورة 1688 - 1689.

خلال قرون خمسة (بين القرن الخامس عشر والقرن العشرون) كان هناك توتر ثقافي - اجتماعي بين الجزيرة والقارة يمكن تلمسه بسهولة في نصوص الأدب الإنكليزي. بالطبع كان هناك انعكاس لمصالح اقتصادية متعارضة وتصادمات حربية ترجمت بدورها في السياسة. بعد انجاز أوتوفون بسمارك الوحدة الألمانية عام1871، وهو ما تم عقب الهزيمة الألمانية للفرنسيين في معركة سيدان عام1870، كان ديدن المستشار الألماني هو عدم صدام برلين ولندن، وهو كان يرى أن باريس لا يمكن أن تنفض غبار الهزيمة إلا من خلال سلم الانقاذ البريطاني، وإلى حد أقل الروسي، لذلك حرص على علاقات جيدة لألمانيا مع البريطانيين والروس، وهو ما فات خلفاء بسمارك بعد عام 1889، لذلك كان التحالف البريطاني- الفرنسي- الروسي طريقاً نحو هزيمة برلين في الحرب العالمية الأولى، ولم يعق ذلك عقد فلاديمير لينين صلح بريست - ليتوفسك مع الألمان في آذار (مارس) 1918. هذا التوتر بين الجزيرة والقارة لم ينعكس فقط في العداء البريطاني لرياح الثورة الفرنسية، الذي يمكن تلمسه في كتاب إدموند بيرك عام 1790عن الثورة والذي يعد "إنجيل النزعة المحافظة"، أوفي الحساسية الثقافية الفرنسية - الإنكليزية، بل استمر في العبور بين شاطئي المانش حتى في فترة التحالف البريطاني - الفرنسي، في الحرب العالمية الأولى بين لويد جورج وجورج كليمنصو، وفي الحرب العالمية الثانية بين ونستون تشرشل وشارل ديغول، واستمر عند الأخير تجاه البريطانيين، بحيث يمكن تلمس مقدار المرارة والحنق في مذكرات ديغول تجاه دور تشرشل والجنرال إدوارد سبيرز في نزع النفوذ الفرنسي من سورية ولبنان في فترة 1941- 1945. في فترة حكم الجنرال ديغول في قصر الإليزيه (1958-1969) كان الجنرال، الذي لجأ إلى لندن بعد الهزيمة الفرنسية أمام هتلر، معارضاً شرساً لانضمام بريطانيا إلى الجماعة الأوروبية وهذا لم يتحقق سوى بعد تنحي الجنرال ووفاته عام1970، في عهد خليفته جورج بومبيدو. من أجل التوازن الأوروبي، ليس ضد الكرملين في فترة الحرب الباردة مع موسكو بل ضد لندن، استدار ديغول في حركة تناسي الذكريات المريرة الفرنسية تجاه الألمان التي امتدت بين عامي1870و1945 وأقام محورا فرنسيا- ألمانيا مع مستشار ألمانيا الغربية كونراد أديناور 1949 – 1963 وهو ما استمر حتى الآن عند كل الشاغلين اللاحقين لكرسي ديغول في الإليزيه.

هنا، كان دخول لندن في الجماعة الأوروبية (التي سميت لاحقاً الاتحاد الأوروبي) بالسبعينيات ناتئاً ولا يتناغم أو يتقاطع مع حركية تاريخ يمتد إلى انفصال تناحري- تناقضي بين الجزيرة والقارة أعقب الهزيمة الإنكليزية عام 1453 في حرب المئة عام. كان (البريكزيت) عام 2016 أكثر انسجاماً مع تلك الحركية التاريخية، وقد كان رفض البرلمان البريطاني لمشاريع الطلاق البريطانية - الأوروبية المخففة، التي اتفقت عليها تيريزا ماي مع مفوضية بروكسيل في أواخر 2018، تعبيراً عن أغلبية المزاج العام الذي يسود الجزيرة البريطانية تجاه القارة الأوروبية.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد