: آخر تحديث

الحلف الغربي في مهب الريح

55
73
62
مواضيع ذات صلة

 جميل مطر

لا مبالغة متعمدة في صياغة عنوان هذا المقال، فالعلامات كافة تشير إلى أن معسكر الغرب يمر بمرحلة لعلها الأسوأ منذ إعلان نهاية الحرب الباردة. أشهد بأنني مع زملاء من الشبان المتابعين تطور العلاقات الدولية لاحقنا بالدقة الواجبة خلال الأسبوع الفائت، تصريحات وخطب وسلوكات ممثلي الدول في مؤتمرين انعقد أحدهما في وارسو عاصمة بولندا، والثاني في برلين العاصمة الألمانية. قبلهما، أي قبل انعقاد هذين المؤتمرين، كنا انتهينا من ملاحقة مواقف الدول من أزمة فنزويلا، وتحليلها.
انعقد مؤتمر وارسو بمبادرة من كوشنر، صهر الرئيس ترامب، ومساعديه، وهما مبعوث الولايات المتحدة للشرق الأوسط والسفير الأمريكي لدى «إسرائيل». شجعهم الرئيس ترامب وكلف كلاً من بنس نائب الرئيس، وبومبيو وزير الخارجية، مرافقة صهره وتشجيعه ومباركة خطواته حتى يتحقق غرضه. لم يكن الغرض مختلفا جداً عن الغرض الذي تحمس له نتنياهو رئيس وزراء «إسرائيل». 
استغلت «إسرائيل» المؤتمر ووجودها في وارسو لتلقي بالزيت فوق حملة «إسرائيلية» شنتها قبل شهور تحت عنوان «تفشي العداء ضد السامية»، والمقصود ضد «إسرائيل». وتنبأت «إسرائيل» بأن العداء ضد السامية سوف يصعد من جديد. والمتهمون كثر، الروس متهمون، والمجريون والبلغار والإيطاليون، والقوميون الأمريكيون، والفرنسيون والإنجليز والألمان، حتى الفلسطينيون والعرب والإيرانيون والبولنديون. هؤلاء الأخيرون لأنهم رفضوا الاعتراف بالاتهام «الإسرائيلي» لهم بالتواطؤ مع النازيين لتنفيذ عمليات إبادة في بولندا أثناء الحرب، وأضافوا إلى رفضهم غضباً، الغضب الذي يستحقه نكران الجميل لشعب استضاف مؤتمراً خدمة ل»إسرائيل» فيكون جزاؤه اتهامه بالعداء ضد السامية. هكذا جرت أصداء مؤتمر وارسو. 
أظن أن لا دولة في أوروبا يمكن أن يوصف عامها الماضي بأنه كان أفضل أعوامها. أذهب خطوة إلى أبعد، فأزعم أن لا دولة في أوروبا تعيش ظروفاً جيدة في هذه الأعوام الأخيرة. 
بعد الحديث عن بريطانيا أتساءل: إن كان يمكن أن تكون فرنسا بخير وشوارعها يحتلها المتظاهرون منذ أكثر من أربعين يوماً، هل لباريس اليوم المصداقية التي كانت لها يوم تقاسمت مع ألمانيا مهام قيادة القارة وتحملت أحياناً منفردة مسؤولية توبيخ الرئيس ترامب، وإرشاده بالنعومة المناسبة نحو «الطريق السوي». أهذه السيدة في برلين التي ترأس حكومة ألمانيا هي نفسها التي عهدناها تفاخر وتعاند وتقود أقوى اقتصاد في أوروبا، وتفاوض روسيا من مركز قوة، وتصلح منفردة، أو مع حكومة شباب في أثينا، اقتصاد اليونان المنهار، أو تقف ضد كل أوروبا وشعبها لتفتح حدود ألمانيا في وجه مليون مهاجر؟ أنا لم أتصور أن يوماً قريباً سيأتي أكون فيه شاهداً على عودة إلى علاقة مأزومة بين ألمانيا وفرنسا، أو بين إيطاليا وفرنسا. ألمانيا وفرنسا تعودان إلى سيرة الألزاس واللورين، وتختلفان على جدوى التعددية في أوروبا، ودمج روسيا فيها، وعلى إنشاء الجيش الأوروبي الموحد. أما إيطاليا وفرنسا فمختلفتان على مسألة استعمارية. مسائل من هذا القبيل الخلاف حولها سبق أن أشعل نيران حربين عالميتين.


استمعنا قبل الانعقاد الرسمي لمؤتمر ميونيخ إلى محاضرة المؤرخ تيموثي جارتون آش، ومحاضرات وتصريحات أخرى ألقاها مسؤولون سابقون تولوا مناصب مهمة في مؤسسات الأمن الغربي. اطلعنا أيضاً على التقرير السنوي الذي تعده إدارة مؤتمر ميونيخ للأمن عن حال الأمن الدولي ليسبق صدوره انعقاد المؤتمر. تداولنا فور اطلاعنا على جملة في التقرير نصها كالآتي «العالم في أزمة، والولايات المتحدة لا تفعل شيئاً سوى أنها تجعل الأمور تزداد سوءاً».
العلامة الثانية، وهي علامة فارقة بالمقارنة بحال الأمن الدولي في المؤتمر السابق، وتتعلق بالسباق نحو التسلح بين الصين وروسيا وأمريكا، وقد صار رهيباً. ترامب يقرر منفرداً ومن دون استشارة رفاق الحرب والسلم في عواصم الحلف الغربي، وقف العمل باتفاقية روسية- أمريكية تنظم إنتاج والرقابة على الصواريخ متوسطة المدى، فترد روسيا بإنتاج صواريخ أكثر تقدماً وتهديداً لكل أوروبا وقواعد أمريكا في الشرق الأوسط وإفريقيا. 
العلامة الثالثة وكانت حول انكشاف حجم وخطورة هذا الفراغ الهائل في قيادة النظام الليبرالي الغربي، وهو الفراغ الناجم عن تخلي الولايات المتحدة عن تعهداتها ومسؤولياتها كقائد للغرب الديمقراطي والليبرالي. 
العلامة الرابعة، كانت واضحة لكل المراقبين والمسؤولين عن الأمن العالمي، ظاهرة تراجع الاهتمام باحترام وتنفيذ الاتفاقيات الدولية، والقانون الدولي، والولاء للدساتير وسيادة الدول. التراجع في حد ذاته ليس جديداً، ولكن الجديد والمذهل هو في تفاقمه بتشجيع من الولايات المتحدة .
العلامة الخامسة وتتعلق بدور الولايات المتحدة في دعم حكام تسببوا بإضعاف هيبة القانون ونصبوا أنفسهم فوق الاتفاقات والدساتير. كذلك فرضت العلامة السادسة نفسها على مناقشات المؤتمر، ومن قبلها على كل المداولات التي دارت مؤخراً، وتدور في محافل الدفاع والأكاديميات الغربية منذ أن تأكد- بما لا يدع مجالا للشك- أن الإهمال المتعمد في التعامل مع مشكلة ارتفاع درجة حرارة الأرض صار يمثل تهديداً مباشراً وعاجلاً للأمن الدولي.


أزمة فنزويلا كانت أيضاً كاشفة، فالغرب منقسم على الأسلوب الأمثل للتعامل مع حكومة مادورو. كان واضحاً، وسوف يزداد وضوحاً عندما تعلن واشنطن عن نيتها تفعيل مبدأ مونرو الصادر عام 1833. صدر المبدأ ليمنع دول أوروبا من التدخل في شؤون أمريكا الجنوبية، وأظن أن دولاً غير قليلة العدد في هذه القارة سوف تتمرد على أي هيمنة أمريكية جديدة لو حرمتها واشنطن من حق استدعاء دول الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا للتدخل في شؤونها، أسوة بما سوف تلجأ إليه دول آسيا والشرق الأوسط في حال استمرت السياسة الخارجية الأمريكية متمسكة بالنهج الراهن. 
العلامات كلها تنبئ بعام سوف يشهد تغيرات مهمة، ليس على صعيد التحالفات القائمة وخرائط انتشار القوة والنفوذ فقط، بل أيضاً على صعد العلاقات الثنائية بين القوى الكبرى والدول المتوسطة والصغيرة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد