: آخر تحديث

المواطنة.. ومفاتيح الاستقرار

68
65
55
مواضيع ذات صلة

عبدالله بشارة  

شهدت مدينة أبوظبي 14 نوفمبر الجاري، مؤتمراً عنوانه «المواطنة.. معانيها وحصادها»، فمن تملك المواطنة استولى على مفاتيح الاستقرار وأمن الانسجام الجماعي، وضمن الوحدة الوطنية، وعاش مطمئناً لقناعة الوطن بكل أطيافه، بصيغة الحكم، التي تعتمد على سيادة القانون وحقوق المساواة واحترام انسانية الفرد واحتضان آماله والإيمان بمواهبه.


تستقوي الدولة مع متانة المواطنة، وتضمن الدولة تكاتف شعبها عندما يقتنع كل فرد فيها بأن حقه مصون وأن قوله مسموع وأن للمذهبية كل الاحترام، مع حق المجتمع في ممارسة شعائر كل الأديان بلا تمييز.
ومن هذا الوضع ترتفع أحاسيس المواطنة بالعطاء وبالتضحية والفداء ووضع الوطن بالأولوية المستحقة في منزلة الولاء.
ويمكن القول بشيء من الاطمئنان إن دول الخليج تتمتع بولاء وطني راسخ، فمن تجربتي في مجلس التعاون كانت أكبر المعضلات في مسيرة الاندماج هي عقبة المبالغة في الحس الوطني، ومن إفرازات المبالغة هي التخوف من إضعاف عاطفة الالتزام الوطني، هذا الواقع، ورغم مرور الوقت، ما زال فعالاً في بنية المجتمع الخليجي.


كانت كثافة الانتماء الوطني تتواجد لدى كل الوفود، وحاضرة في كل اللقاءات، وكانت منبع المجادلة. وبصراحة فقد كنت أشعر بكثير من الارتياح لغزارة الغيرة الوطنية، وأعرف أنها تؤخر المسار الجماعي، لكنها في ظروف دول الخليج تصبح العامل المؤثر الأكبر في إفشال التسللات الأيديولوجية التي تحمل معها أدبيات غريبة على المجتمع الخليجي، لم يتآلف معها التراث ولا وجود لها في الفلوكلور السياسي الخليجي المتوارث، وغير مرغوبة في المنتديات السياسية والأدبية المحلية.
حقائق الدول العربية في حوض الشام جاءت من انتاج مؤتمر الصلح في فرساي في عام 1921، الذي وضع النظام الاقليمي العربي المشرقي، فقد كان العراق يتكون من ثلاث ساحات: الكردية، الوسط، والجنوب الشيعي، وضمت بريطانيا الثلاث، ومنها جاءت الدولة العراقية بنفس قومي عربي قوي، بوحي من النخبة العربية التي قاومت الدولة العثمانية، وساهمت في استقلال الدول، سوريا والعراق ولبنان والأردن، ومن تركتها الفكرية تسيد الشأن القومي العربي العام توجهات الدولة العربية الجديدة، في كل من الشام والعراق.
لم يتولد في سوريا الحس الوطني السوري بالحجم الذي نلمسه في الدولة الوطنية الأوروبية، وينطبق ذلك على العراق، وعلى مختلف مناطق حوض الشام.
فلا توجد جذور تاريخية للهوية الوطنية في هذه المناطق، فولادة دولة العراق وكيان سوريا هي من قرارات خريطة فرساي ولم تكن حصيلة تطور لهوية وطنية تاريخية واحدة.
بينما تتمتع المنطقة الخليجية بخصائص جاءت من تطور تاريخي للمجتمعات الخليجية بدأت مع تجمعات بشرية نزحت نحو الخليج في مأمن جغرافي من اضطرابات شمالية أو جنوبية، واستقرت في المنطقة مع بحث لتأمين المعيشة لهذه الجموع المتواجدة.
فالحالة الكويتية لا تختلف عن الحالات في المناطق الخليجية الأخرى، تجمعات بشرية بأعداد سهلة تواجدت حول الكويت، استخرجت منها وسائل العيش في البقاء، وكبرت مع التطور واختارت نظاماً اجتماعياً ينسق في ما بينها عند الاحتكام، وتنمو الكويت لتتحول إلى دولة، ليس من انتاج مؤتمر فرساي ولا من وزارة المستعمرات البريطانية، فيسجل تاريخ الكويت بأن بريطانيا في عام 1841 وجدت كياناً بحرياً كويتياً اتفقت معه على محاربة القرصنة في الخليج، حيث كانت سفن بريطانيا، وسفن الكويت هدفاً سهلاً للقراصنة، وكان ذلك في عهد الشيخ جابر بن عبدالله الحاكم الثالث، كان ذلك أول تعارف بين الطرفين.


خلال اجتماعات الجامعة العربية التي كنت أحضرها في الستينات كان وزراء سوريا والعراق وإلى حد ما الأردن يتحدثون بالمفردات القومية والمصطلحات الحزبية العقائدية، عن الوطن العربي، وعن شأن الأمة، في تجاوز تام عن الحس الوطني السوري الذي لم يتواجد في الهيكل السياسي السوري ولا في مثيله في العراق..
وتشكل ظاهرة الالتصاق القومي في كل من سوريا والعراق العامل الأبرز في توجهات هذه الدول نحو الوحدة مع مصر، كما دونت أحداث التاريخ عن الوحدة المصرية – السورية، وإعلان الاتفاق الثلاثي المصري – السوري – العراقي في عام 1963 الذي لم ير النور.
وأعتقد أن حزب البعث وغيره من التجمعات الأيديولوجية العربية أخفقت في فهم الحقائق الخليجية، فتصور قادة حزب البعث العراقي أن واقع الكويت ضعيف وكرتوني سهل الاقتلاع، وكما كنا نسمع المفردات القومية عن دول الخليج بأنها كيانات بلدية وليست دولة بالمعنى الأوروبي المعروف.
وبهذه العبثية الفكرية جاءت كارثة الغزو العراقي درسا للعراق وللآخرين المستخفين بالكيان التاريخي الخليجي.


كما لم تؤسس الدول العربية مرتكزات وطنية ترسخ الوحدة الوطنية وتجسر التباعد بين طوائفها، وتنشر فضيلة سيادة الق

انون وأحكامه واستقلال القضاء كحماية للهوية الفردية الشخصية مع تعميق الانفتاح بين الفئات واحترام العقائد والديانات والمساواة بين أبناء المجتمع، لم يكن هذا الاصلاح الداخلي والتطور الحضاري من أولويات الحكم في العراق أو سوريا، ولهذا غاب التجاوب الوطني الشعبي مع أنظمة الحكم فيها وتحول البقاء بالاقتناع إلى البقاء بالإذعان لمؤذيات السوط والسيف.
وهذا السرد الإيجابي نحو المنطقة الخليجية لا يعني الاسترخاء بالرضا وبالموجود، وإنما المقصود تأييد حكم القانون والمطالبة بالتطور السلمي المدني بضوابط تعمق التنمية السياسية والاجتماعية بحيث يؤمن كل مواطن بأن له نصيبا في هذا التطور بصوت مسموع وبمسار آمن وبمستقبل مضمون.
تجربة الخليج في الحس الوطني غير قابلة للتصدير، لأنها جاءت من تراكم التجارب وتطور الصيغة القبلية التي أنبتتها، ولهذا ستبقى في مأمن من المغامرات الخارجية، ومحصنة داخلياً بالولاء الجماعي المقتنع بأسلوب التدرج في مراحل التجديد.
تجارب العراق وسوريا، ولدت الدمار والانقسام الشعبي، الذي يحتاج إلى قيادة وطنية قادرة على توظيف الامكانات لبناء وطن قانع خال من متاهات الأيديولوجية الحالمة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد