: آخر تحديث

التغيير وجوانب التأثير الاجتماعي

61
69
57
مواضيع ذات صلة

 جمال سند السويدي 

من أهم جوانب تأثير التغيير المتسارع وغير المسبوق في العالم، وخاصة على المستوى التكنولوجي والعلمي في إطار ما تُعرَف بالثورة الصناعية الرابعة، وفي القلب منها الذكاء الاصطناعي، هو الجانب الاجتماعي الذي يتعلق بواقع المجتمع في الدول المختلفة، من حيث التأثير على الهوية والقيم، ونمط العلاقات، ومصادر الاستقرار والتوتر، وطبيعة العلاقة مع المجتمعات الأخرى، وغيرها من الجوانب. وفي هذا السياق؛ فإن هناك حاجة ماسَّة إلى اهتمام أكبر من قبل المتخصصين، وخاصة علماء الاجتماع والاقتصاد وغيرهم، بدراسة الآثار الاجتماعية للتغيير؛ لأن الأمر يتعلق بالأمن الاجتماعي الذي يقع في صميم الأمن الوطني لأي دولة، بل إنه يتصل بالوجود الإنساني نفسه في ظل اختراعات تكنولوجية تغير كل شيء على سطح الأرض، وفي المقدمة موقع الإنسان نفسه في هذا الكون، حتى إن عالم الفيزياء البريطاني الشهير الراحل ستيفن هوكينج، حذَّر من أن الذكاء الاصطناعي قد يمهد لنهاية الجنس البشري، وهو تحذير لا ينطوي على أي مبالغة إذا ما عرفنا أن ثمَّة بحوثاً حول صناعة روبوتات يمكنها أن تشعر وتحب وتكره وتتجاوب مع المثيرات، ولديها قدرة على تطوير ذاتها.


وبشكل عامٍّ لا يمكن الحديث عن جانب واحد لأي تغيير مهما كان حجمه أو طبيعته أو مجاله، وإنما هناك دائماً جانبان، أو حتى جوانب عدة. فلا شك في أن للتغيير آثاره الاجتماعية الإيجابية الكثيرة، أولها أن التطور التكنولوجي الكبير، وخاصة في مجال الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، قد عمَّق من التواصل والتعارف بين المجتمعات التي تختلف من حيث الدين واللغة والعادات والتقاليد وغيرها، وهذا يعزز من قيم الانفتاح وقبول الآخر في هذه المجتمعات، ويواجه الآثار السلبية للصور النمطية المشوَّهة أو غير الحقيقية التي تحتفظ بها بعض المجتمعات أو الشعوب عن غيرها من المجتمعات والشعوب الأخرى، ما قد يصب في تقوية أركان السلام الاجتماعي من ناحية، وخدمة السلام في العالم من ناحية أخرى. ثانيها أن التكنولوجيا الحديثة تسهم في خلق آليات فاعلة وسريعة وغير تقليدية للكشف عن مواطن الخلل في المجتمعات بدلاً من الآليات التقليدية البطيئة والمعقدة وقليلة الفاعلية، وأدوات أكثر كفاءة وسرعة واحترافية لتقديم الخدمات، وهذا من شأنه أن يسبب الرضا داخل المجتمع، ويقلل أسباب التوتر والاحتقان. ثالثها أن التكنولوجيا، وخاصة تقنيات الذكاء الاصطناعي، تسهم بشكل كبير في التعرف إلى التفاعلات والأفكار والتوجهات داخل المجتمع، وتحليلها، ومن ثمَّ القدرة على التنبؤ بمسارات الاستقرار وعدم الاستقرار فيه، واكتشاف مصادر الخطر والتهديد والتعامل الاستباقي معها.


آثار اجتماعية سلبية


لكن على الجانب الآخر؛ فإن للتغيير الكثير من الآثار الاجتماعية السلبية التي من المهم الانتباه إليها، والتحسُّب لها، أولها أن القدرة على اختراق المجتمعات والتأثير في أفكارها وتوجهاتها أصبحت أكبر وأكثر خطورة، حيث تتيح تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للدول التي تملكها قدرة خارقة على التأثير في مجتمعات الدول الأخرى، خاصة التي لا تملك مثل هذه التكنولوجيا، وليست لديها آليات الدفاع في مواجهتها. ثانيها التأثير السلبي في القيم التي ضمنت، على مدى سنوات طويلة، تماسك المجتمعات وقوتها واستقرارها؛ لأن سطوة الآلة، وسيطرتها على كل مناحي الحياة، ومنافستها للإنسان في المجالات كافة، سوف تؤدي إلى التراجع التدريجي للقيم الإنسانية مثل التعاون والتعاطف والتكاتف وغيرها من القيم الاجتماعية والإنسانية؛ حيث سيفرض منطق الآلة نفسه على المجتمع، ومن ثم ستتراجع الاعتبارات الإنسانية؛ ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة النزعة إلى الصراع والعنف. ثالثها أن انتشار ثقافات خارجية في بعض المجتمعات؛ بفضل تكنولوجيا الاتصال وما أدت إليه من سهولة انتقال الأفكار والتوجهات والثقافات؛ قد أدى إلى بروز النزعات الثقافية العنصرية والانغلاقية والقومية في بعض المجتمعات كردِّ فعل على "غزو" حقيقي أو متوهَّم لثقافات أجنبية لها، وفي محاولة للدفاع عن هويتها وخصوصياتها؛ لأن كثيراً من المجتمعات غدت تفقد هويتها تدريجياً، بوعي أو من دون وعي؛ بسبب هيمنة الثقافات الوافدة، وليست لديها القدرة على إيقاف هذا الخطر؛ ما يخلق لديها نزعات متطرفة للتصدي لهذه الثقافات الوافدة، أو على الأقل إبقاء الثقافات المحلية إلى جانبها، وعدم اندثارها أو اختفائها. رابعها أن التكنولوجيا الحديثة، وفي مقدمتها ثورة الاتصالات ومنتجات الذكاء الاصطناعي، تخلق الكثير من المشكلات المعقدة في المجتمعات التي يمكن أن تعصف باستقرارها لأكثر من سبب، أهمها ما يمكن أن تؤدي إليه "أتمتة" الوظائف من زيادة معدلات البطالة، كما أن مفاهيم مثل الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها تساعد التكنولوجيا على انتشارها في المجتمعات المختلفة، وينتج عن ذلك مظاهر توتر واحتجاجات في بعض المجتمعات، بل إن التكنولوجيا توفر قنوات لا يمكن التحكم فيها لخدمة هذه الاحتجاجات، كما حدث في مصر على سبيل المثال إبان ما يعرف بـ"الربيع العربي"، حيث مكَّنت التكنولوجيا من إيجاد بدائل للتغلب على قطع الحكومة لخدمة الإنترنت. ويؤدي انفتاح المجتمعات على بعضها بعضاً، بفعل ثورة الاتصالات؛ إلى زيادة معدلات الغضب والتذمر وعدم الرضا في المجتمعات الفقيرة والمتخلِّفة عندما تقارن نفسها بالمجتمعات الغنية والمتقدمة، والمجتمعات التي تفتقر إلى الديمقراطية عندما تقارن نفسها بالمجتمعات الديمقراطية، وهكذا، بل إن هناك تقارير ودراسات تتحدث عن أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يمكن أن تزيد من معدلات "العنوسة" داخل بعض المجتمعات بسبب التطور الكبير في مجال إنتاج "الروبوتات الجنسية"، والعمل على منحها جوانب عاطفية.


آثار متفاوتة 


وهذه الآثار السلبية والإيجابية للتغيير، أو بعضها، ليست واحدة في كل المجتمعات، كما أنها ليست قدراً محتوماً لا فكاك منه، وإنما تتفاوت طبيعتها وحجمها من مجتمع إلى آخر تبعاً لطبيعة المجتمع نفسه، ومدى قدرته على التعامل الرشيد مع هذا التغيير، واستعداده له؛ فلا شك في أن الدول المتقدمة، التي تملك التكنولوجيا الحديثة، وفي مقدمتها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وتنخرط بقوة في مستجداتها، ولديها مجتمعات متقدمة ومتطورة وشعوب واعية ومتعلمة، سوف تتسع فيها مساحة الآثار الاجتماعية الإيجابية للتغيير، وتتقلص مساحة الآثار السلبية، والعكس صحيح في المجتمعات التقليدية البعيدة عن امتلاك ناصية التكنولوجيا والعلوم الحديثة، والتي لديها شعوب لا تملك مقومات التعامل مع هذه التكنولوجيا، من حيث التعليم والمهارات والثقافة وغيرها، ومن هذه المجتمعات الكثير من المجتمعات العربية التي تواجه مشكلة مركَّبة في التعامل مع التغيير وآثاره الاجتماعية؛ حيث تعاني بعض المجتمعات العربية من مشكلات هيكلية أو بنيوية تمنعها من الاستفادة من التغيير في العالم، أو التجاوب معه بالشكل المطلوب، أهمها انتشار الأمية بمعناها التقليدي؛ حيث يتحدث العالم عن أمية الكمبيوتر والإنترنت، بينما العالم العربي لا يزال يعاني من أمية القراءة والكتابة في القرن الحادي والعشرين. 
الاستغراق في «الماضوية»


وإضافة إلى ذلك؛ فإن هناك مشكلة الاستغراق في الماضي في بعض المجتمعات العربية، ففي الوقت الذي يتجه فيه العالم إلى الأمام؛ فإن هذه المجتمعات لا تزال منجذبة نحو الماضي؛ ربما لأنها ليس لديها إنجاز في الحاضر تفتخر به، أو لأن هناك تيارات "ماضوية" ترى أن وصفة التقدم تأتي من الماضي وليس المستقبل، وتعتقد أن ما ساد من خلاله العرب والمسلمون العالم في الماضي لا يزال صالحاً للنهضة في الحاضر والمستقبل، ومن ثم لا تهتم بالعلم أو التكنولوجيا. وفضلاً عن ذلك؛ فإن الكثير من المجتمعات العربية أخذت بقشور التغيير بدلاً من أن تنخرط في إنتاجه، ومن ثم استغرقت في استهلاك منتجات التغيير، وسيطرت عليها قيم الاستهلاك غير الرشيد، من دون أن تعي القيم والمعاني والمبادئ التي تقف وراء هذا التغيير واختراعاته من اجتهاد وجهد ونظام واحترام للعمل والعلم والعقل والقانون والبحث العلمي وغيرها. ومن ثم نظل في الكثير من بلادنا العربية مستهلكين للتغيير وغير مساهمين في إنتاجه. ولعل ما يزيد من المعضلة التي تواجهها المجتمعات العربية في التعامل مع التغيير وآثاره فيها أن ثمَّة نظرة توجُّس تعاني منها بعض هذه المجتمعات تجاه التغيير، أي تغيير، بحجة أنه يستهدف هويتنا وأصالتنا وقيمنا، بل إن هناك من يذهب إلى جعل رفض التغيير هو الموقف المبدئي الأول الذي يتم اتخاذه تجاهه. 
وفي ضوء ما سبق يمكنني القول، إن تطورات الثورة الصناعية الرابعة سوف تغير المجتمعات في العالم بشكل جذري، ولن تجدي أي مقاومة لهذا التغيير؛ لأنه حادث لا محالة، ومن ثم فإن المجتمعات الواعية هي التي تستعد له وتهيئ أفرادها للتعامل معه من اليوم وليس الغد، لكن المجتمعات التي لا تملك المبادرة عليها أن تنتظر مصيرها الذي سوف يتحدد بعيداً عنها، والكثير من هذه المجتمعات، للأسف، مجتمعات عربية.

 

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد