: آخر تحديث

إيران .. والأربعون العجاف

84
93
75

علي الأحمد

عندما وصلت إلى بهو أكبر فنادق طهران «فندق إسبيناز»، بادر موظف الاستقبال معتذراً: «سيدي أعتذر منك، فلا يمكننا قبول أي من بطاقاتك الائتمانية»، وعندما رأى الحيرة بادية على وجهي، أكمل اعتذاره في نبرة خجل، ليقول: «في جمهورية إيران الإسلامية، الدفع نقداً؛ لأن بلدنا غير مرتبطة بشبكة الائتمان الدولية».

نظرت إليه مشفقاً، وكنت أريد أن أقول له: «هناك فرق بين أن تقرر ألّا ترتبط بهذه المنظومة العالمية، وبين أن تمنع من الانضمام إليها»؛ ولكن خجل الموظف المغلوب على أمره، من واقع حاله جعلني أبقى صامتاً، إضافة إلى أنّ الحكمة، التي تُملي عليك ألّا تُبدي رأيك في مثل هذه المواقف، طالما أنت في إحدى المدن الإيرانية.

استمرت معاناتي؛ لأن بطاقات الصرف الآلي لا تعمل، ولن أستطيع السحب من حسابي المصرفي خارج إيران لنفس السبب؛ كون آلات الصرف الآلي في إيران غير مرتبطة بالبنوك خارج إيران؛ لذا متى ما قررت السفر إلى إيران، عليك جلب العملة الأجنبية قبل صعودك إلى الطائرة. 

ذاك واقع الحال الذي اكتشفته في إيران على مستوى التجربة الشخصية. اليوم هناك سؤال يدور في خلد الكثيرين مثلي، ماذا ينتظر إيران؟ ما ملامح المرحلة القادمة؟ بقاء النظام أو زواله ربما ليس السؤال المُلح الآن، وربما يكون السؤال الأهم هو نتائج السياسة الإيرانية على الاقتصاد الإيراني بكافة عناصره من تضخم وبطالة، وفساد ونمو، وفرص استثمار وغيرها! 

هل سيأتي المستثمر الأجنبي إلى إيران، وهو يدرك حجم المخاطرة؟ هل الاستثمار والولوج إلى السوق الإيراني مربح ويستحق المجازفة؟ 

للإجابة على بعض تلك الأسئلة، وخاصة بعد طردها من النظام المالي العالمي، يتعين النظر إلى مصدرين؛ الأول هو تقرير الثلاثة الكبار في عالم المال (Fitch, Modey, S+P) الخاص بتصنيف دول العالم؛ من حيث المتانة المالية والقدرة الائتمانية. وسيتفاجأ المرء عندما يعرف بأن إيران ليست من ضمن التصنيف بتاتاً؛ بل تعد إيران من الأماكن الخطرة للاستثمار، ومن ضمن أهم الأسباب هو عدم وجود تشريعات وقوانين لحماية رأس المال القادم من الخارج.

أما المصدر الثاني، فهو تقرير الدول والمخاطر الذي تصدره مجموعة «الإيكونومست» العريقة التي أنشأها جيمس ويلسون (James Wilson) سنة 1843 في لندن، والأرقام والاستنتاجات المشار إليها في هذا المقال، مذكورة في «تقرير إيران» الصادر بتاريخ 14 أغسطس/آب 2018

The Economist /Intellgence unit Issued on 14th Aug. 2018 
1 - Iran - country Report 
2 - Iran country Risk Service.

يشير التقرير في البداية إلى خلاصة نتائج الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي بين إيران والدول (5+1)؛ ليذكر التوقعات الناتجة عن انسحاب الولايات المتحدة؛ وهي تدهور الاستثمارات، وانخفاض إجمالي صادرات إيران من النفط، وصعوبة الحصول على التمويل، ما سيؤدي إلى عجز الحكومة عن قدرتها على سداد ديونها الخارجية «والمتأثر الأكبر والأول من عجز الحكومة، هو القطاع المصرفي»، كذلك ضعف أصول البنوك الإيرانية، وارتفاع معدل الديون غير المحصلة، وتدخل أصحاب النفوذ السياسي سوف يعوق قدرة البنوك على الإقراض «ومتى ما عجزت البنوك عن الإقراض، تكون عندها غير فاعلة في نمو الاقتصاد أو تبني الفرص».

ويشير التقرير إلى أن الحكومة الإيرانية سوف تغير سياستها الاقتصادية، وتتجه إلى الصين والهند؛ لتقليل الضغط الاقتصادي الناتج عن انسحاب الولايات المتحدة، وخوف الشركات الأوروبية من الدخول إلى السوق الإيراني؛ بسبب العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة منذ قدوم الرئيس دونالد ترامب. ولتفادي استخدام الدولار الأمريكي في التبادل التجاري قد تبرم صفقات بين إيران من جهة والهند والصين من جهة أخرى، مبنية على أساس المقايضة «Barter deal» أي أن يشتري الصينيون والهنود البترول الإيراني، ويقومون بتصدير بضاعة أخرى (صناعة صينية أو هندية) بما يعادل كُلفة النفط المُصدر.

إضافة إلى ذلك قد تلجأ الحكومة الإيرانية إلى العودة إلى تجربتها السابقة بالاعتماد أكثر على الصناعات والمنتجات المحلية؛ لعدم استطاعة السوق الإيراني، جذب مستثمرين من خارج إيران أو حتى الحفاظ على المستثمرين، الذين هرب معظمهم من السوق الإيراني؛ بعد أن هرولوا في البداية للسفر إلى «أرض الميعاد»، بالفهم الاقتصادي، هؤلاء المستثمرون تبخرت أحلامهم ورضخوا للأمر الواقع، وأدركوا أن السوق الإيراني، لا يستحق المجازفة في ظل كل عناصر المخاطرة تلك. 

أما فيما يخص موقف الرئيس حسن روحاني، فيرى التقرير بأن موقفه سيضعف؛ لفشله في جلب الاستثمارات الأجنبية، أو تنفيذ مشاريع الخصخصة، التي أعلن عنها سلفاً، كما أنه لن يستطيع تحجيم دور الحرس الثوري أو المساس بممتلكاته أو التقليل من نفوذه.

النفط الإيراني من سيشتريه؟؟

متوسط إنتاج إيران اليومي يبلغ 2.5 مليون برميل من النفط، وبمجرد إعلان الولايات المتحدة عن إعادة العقوبات على إيران، انخفض بمعدل 600.000 برميل من الطلب على البترول الإيراني، والتي كانت هي حصة الاتحاد الأوروبي، فالبدائل موجودة ومتاحة للأوربيين لاستيراد النفط من دول أخرى. 

أما اليابان وكوريا الجنوبية وهم من المستوردين الأكبر للنفط الإيراني، وقد خفضوا فعلياً الاعتماد على إيران كمصدر للنفط. (وخفضت كوريا الجنوبية 40% خلال شهر يوليو/تموز 2018)، في حين أن الصين والهند تستوردان 1.3 مليون برميل يومياً من إيران (أكثر من نصف الإنتاج الإيراني للنفط)، وهي عقود لا تستطيع إيران النجاة بدونها، ويذكر التقرير، أن الهند تتفاوض مع الولايات المتحدة لاستثنائها؛ لتستطيع استيراد 50% من حصتها الحالية من النفط الإيراني، وكردة فعل تقوم إيران حالياً بعرض نفطها بأسعار منخفضة؛ لجذب الزبائن؛ حيث تقدم خصماً يصل إلى 95 سنتاً لكل برميل.

في ظل هذه الظروف يتوقع خبراء «الإيكونومست»، أن إيران لن تستطيع بيع أكثر من 1.7 مليون برميل يومياً من نفطها. مقارنة 2.5 مليون برميل قبل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني.
النفط الإيراني الآن، إن جاز لنا استخدام المثل باللهجة المصرية: اللي يقدر.. يشيل.. ولكن «اللي يقدرو» قلة؛ فالرئيس ترامب بالمرصاد. ويذكر الخبراء بأن غالبية شركات التأمين تتجنب التأمين على نقل النفط الإيراني لأي جهة كانت، ما سيزيد المخاطرة، وبالتالي يستمر انخفاض الطلب على نفط إيران.

ويوضح التقرير، أن مرحلة الفشل الاقتصادي لخطط روحاني، لم تبدأ الآن، فهي قد بدأت منذ أكثر من سنة مضت؛ «حيث اضطرت الحكومة وتحت تأثير المتظاهرين الإيرانيين الغاضبين إلى التراجع عن خطتها، التي أعلنتها ووافق عليها البرلمان الإيراني؛ برفع الدعم عن أسعار الوقود بنسبة 50%، وقد استمر الدعم الحكومي إلى الآن». وتجربة فشل أخرى؛ هي تراجع الحكومة عن فرض ضرائب جديدة في ظل تدهور الاقتصاد وانكماش الدخل القومي الإيراني المتوقع حسب تقرير «الإيكونومست».

حكومة روحاني في موقف لا تحسد عليه، ومعظم القراءات تشير إلى أن الاقتصاد الإيراني سوف يتدهور من سيئ إلى أسوأ، فلن تستطيع حكومة روحاني إقناع المستثمرين الأجانب بالاستثمار في إيران أو حتى الحفاظ على من تم التعاقد معهم. 

ربما يكون الخاسر الأكبر اقتصادياً بعد إيران هو العراق.

يعرف الأمريكيون جيداً نفوذ إيران في العراق، في حين يعرف ويرى العراقيون مدى تأثير العقوبات الأمريكية عليهم؛ لذلك هم المتأثر الأكبر بعد الشعب الإيراني، وقد تلاشت ثروات الكثير من العراقيين، الذين أودعوا ثرواتهم في البنوك الإيرانية وبعملة إيرانية.

اليوم تبيع إيران بضائعها الرخيصة في العراق، والغاز الإيراني يقوم بتشغيل 20 % من إجمالي كهرباء العراق، وفي حين تحاول الحكومة العراقية إقناع الإدارة الأمريكية بإعفاء هذا القطاع من العقوبات، يرى التقرير أن الولايات المتحدة لن تمنح استثناء للحكومة العراقية في المرحلة الحالية؛ لأنها لم تقدم أي استثناءات لحكومات أخرى. 

أما التجارة بين إيران والعراق، فيرى التقرير بأنها لن تتأثر كثيراً؛ كون معظم هذه التجارة لا تزال تجري على الطريقة التقليدية القديمة، «شغل دكاكين» والاعتماد على التعامل النقدي، وهنا في الخليج يجب أن تكون خمسينياً فما فوق؛ لكي تعود بذاكرتك أربعين عاماً إلى الوراء لحقبة السبعينات؛ لكي تتخيل أسلوب التجارة آنذاك. وهو واقع الحال الآن في إيران. 

إن السوق الإيراني اليوم يستخدم وسائل تعامل في تجارته تعود لمرحلة ما قبل إنشاء المصارف، لن يستطيع القطاع الخاص، النمو وتوفير فرص العمل لملايين العاطلين من الشباب، ولملايين قادمة كذلك، ولا يبدو أن روحاني قادر على أن يبشر هذه الملايين الجائعة بأي انفراج قريب، وتصل نسبة البطالة بين الشباب الإيراني إلى قرابة 30%.

إن أراد الإيرانيون أن ينافسوا اقتصادات دول الخليج، فعليهم القفز بما يعادل التطور في خمسين عاماً؛ ليصلوا إلى ما نحن وصلنا إليه الآن، ولكن متى ما نظرت إلى البيئة الحاضنة للأعمال والنمو الاقتصادي في إيران، تدرك يقيناً بأن الفارق مع بعض دول الخليج يزيد في الواقع على الخمسين عاماً. فمنذ 1979 توقفت عجلة التطور الاقتصادي في إيران.

يبقى عاملان اقتصاديان آخران، هما المحرك الأكبر لأفراد المجتمع، وربما جاز تسميتهما بالعاملين الجماهيريين؛ لأنهما يلامسان حياة الناس اليومية؛ وهما: التضخم وسعر صرف العملة، أما بالنسبة للتضخم في إيران فقد وصلت النسبة إلى 18% في شهر يوليو/تموز 2018، أما توقعات«الإيكونومست» بمتوسط للتضخم في 2019+2020 هو 16.41% وحتى في حال إن توقعنا بأن السوق الإيراني سوف يزيد كفاءته، محاولاً الوصول إلى الاكتفاء الذاتي، معتمداً على المنتج الإيراني المحلي؛ فإن القوة الشرائية للأفراد سوف تتقلص كثيراً في ظل هذه النسب المتوقعة من التضخم.

أما العامل الثاني فهو سعر صرف العملة بما يعادلها من العملات الأجنبية، وليس من المنطق أن تتشدق الحكومة الإيرانية بسعر الصرف الرسمي للريال الإيراني (1 دولار= 42000 ريال إيراني)، بينما وصل سعر الريال الإيراني في السوق السوداء للعملة في إيران؛ وهي سوق مزدهرة، إلى 150,000 ريال مقابل الدولار الأمريكي.

يعد التقرير أن الهوة الشاسعة بين سعر الصرف في الواقع، وما تعلنه الحكومة الإيرانية، يشكل تهديداً مباشراً قد يؤدي إلى الانهيار الكلي للعملة الإيرانية، وهناك شواهد من التاريخ على ذلك، والانهيار الكلي للعملة سيجبر كل مالك للريال الإيراني على اختيار عملة أخرى بدلاً عن ثروته، ولن يستطيع أحد أن يقيس ثروته بالريال الإيراني، ومتى ما فقدت الدولة السيطرة على عملتها؛ فهي بذلك تخسر جزءاً مهمّاً من أركان سيادتها. 

أما الاستثمار في الطاقة المتجددة في إيران، الذي تحاول تسويقه حكومة روحاني لمن يرغب، وليس هناك راغب، فقد أعلنت «توتال» الفرنسية رسمياً، خروجها من السوق الإيراني، ومن صفقة تقدر ب 4.8 مليار دولار، تلتها شركة «كيركوس» البريطانية، ودون الاستثمارات الخارجية 

في هذا المجال؛ ستبقى إيران تراوح مكانها في صناعة الطاقة المتجددة؛ بل إن ما أعلنته الحكومة الإيرانية بأنها تنوي توفير 5جيجافولت بحلول العام 2020، ليس إلاّ أحد وعود روحاني، ولن يصدق روحاني وعده.

إن هذا الانزلاق غير المتحكم فيه للعملة الإيرانية، يفقد الشعب الإيراني الثقة في الاحتفاظ بعملته؛ لأنك كمواطن إيراني إن قررت الاحتفاظ بالريال الإيراني، سترى قيمة ثروتك وشقاء عمرك، يتبخر أمامك، دون ذنب ارتكبته، ولعل ذنبك الوحيد أنك صدقت حكومتك. 

لا تقاس متانة الاقتصاد ونجاح التنمية بعدد الأفواه الجائعة لملايين من البشر، ولكن يقاس نجاح التجربة التنموية؛ بما أُنجز على أرض الواقع، فهو يبدأ بوضوح الأهداف، وصلابة الإرادة ودقة التنفيذ؛ ولذلك نحن نصنع مستقبلنا وفي الوقت ذاته نعيش مستقبلنا؛ من خلال حاضرنا وهو نموذج نجاح وحكاية تُروى ليستفيد الغير.

إيران هشة؛ لأن حاضرها هش، ولا تملك مقومات الاستقرار الاقتصادي، وسياسة حكومتها لا تقدم الحياة الكريمة لشعبها، والإحصاءات العالمية تقول إن إيران التي حباها الله برابع أكبر احتياطي للنفط في العالم:
40 % من سكان إيران تحت خط الفقر.

30 % هي نسبة البطالة بين الشباب الإيراني.
أكبر نسبة مدمنين على المخدرات في العالم هي في إيران. 
إن كانت الحكومة الإيرانية تقدم التعاسة لشعبها، فيجب ألّا ننتظر منها أن تقدم السعادة للغير. 
ولعل تلك هي فلسفة النظام الإيراني الحقيقية، إن لم تكن قادراً على النجاح، فعليك بزيادة الفاشلين أمثالك من حولك. 
عندما يحتفل النظام الإيراني في العام القادم بمرور 40 عاماً على ثورته، ستقول لهم مرآة الحاضر إنها ليست إلا أربعين عجافاً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد