: آخر تحديث

الرئيس ترامب.. ودبلوماسية النفط

62
70
64
مواضيع ذات صلة

  عبدالله بشارة

 

شعرت بالأسى وأنا أستمع إلى خطاب الرئيس الأميركي ترامب موجهاً حديثه إلى المجتمع الدولي يعلن فيه أن «أوبك» تنهب العالم، ويحث الدول النامية على الاعتراض على سلوكها، ويشير إلى أن بعضها مرتاح من الغطاء الأمني الرادع الأميركي، مع نبرة بإعادة النظر في قواعد هذا الغطاء.


أتحدث هنا عما أعرف وشاركت فيه من خلال الدورة الاستثنائية للأمم المتحدة في مارس 1974، بمبادرة من الرئيس الجزائري الهواري بومدين، إثر أزمة حظر النفط الخليجي على الولايات المتحدة، ومطالبته بوضع نظام اقتصادي عالمي جديد، ينصف الدول المصدرة للمواد الخام بكل أصنافها من ذهب وحديد ومنتجات زراعية وقطن وغيرها، والنظر في سلوك الشركات العابرة للحدود الوطنية Trans-National Companies.
كان جدول أعمال الدورة الخاصة في 1974 وضع قواعد التفاهم بين الدول المصدرة للمواد الخام والدول المستهلكة، لكن التركيز كان على النفط الذي وضعته وثائق الدورة بأنه السلعة النادرة التي يحتاج إليها العالم كله، الأغنياء والفقراء، الصحراويون وسكان الجزر، كل آليات التحرك من السفن والسيارات، القطارات والمصانع، هو الطعام الذي تستهلكه الصناعات وآليات النقل واستخراج محتويات الحياة بكل أنواعها.
وتم تصنيف النفط سلعة استراتيجية لها خصوصية تفرض التعامل معها بالتفاهم، فليس من حق الدول المنتجة التصرف فيها والتلاعب بأسعارها أو تحد من حجم إنتاجها، وليس من حق الدول المتقدمة أن تنتزع ملكيتها لا بالقوة ولا تحت غطاء «الشركات التي تتحكم في التكنولوجيا»، وعلى هذه الدول وهذه الشركات أن تلتزم بسيادة الدول على مواردها الطبيعية، وفق قرارات الأمم المتحدة.
ومن خلال ذلك الحوار برز تفاهم جنتلمان ينظم مسار النفط في العلاقات الدولية، فلا ينقطع فيسبب أزمة اقتصادية وحياتية، ولا يضخ فوق حاجة المجتمع فتنحدر الأسعار، وإنما التمسك بتوازن يريح الطرفين، مع الوعي المسؤول بأن النفط ثروة تملكها الأسرة العالمية، وتواجدها داخل بطن الأرض في بعض الدول لا يعني التحكم في مساراتها ولا العبث في تحركها نحو العالم الخارجي، وهي، سلعة النفط، شبه وديعة عالمية تستمر دول الإنتاج في حراستها وتظل دول الاستهلاك تتمتع بتوافرها.


ولأن هناك دولاً لا يسمح مخزونها من النفط في زيادة الانتاج، لإرضاء حجم الاستهلاك وتلبية احتياجاته، فقد صار من نصيب دول الخليج، وبالذات المملكة العربية السعودية والكويت والامارات، أن تزيد الانتاج لتلبي حاجة المستهلكين، بصرف النظر عن حاجة هذه الدول للعائد المادي من هذه الزيادة، فهي دول تستوعب المسؤولية الجماعية العالمية وتقدر الهوية النادرة للطاقة وتفي بشروطها، إرضاءً للاستقرار الاقتصادي والسياسي العالمي، وتأمين الهدوء والطمأنينة في العلاقات الدولية.
هذه الوصفة التي تم الاتفاق عليها بين كبار المنتجين وكبار المستهلكين ظلت فاعلة ومؤثرة وتنال قبول الطرفين.
وفي اجتماع «أوبك» الأخير في الجزائر كان السعر المقبول سبعين دولاراً على الأقل، وإذا ما صعد بنسبة عالية فستتحرك دول القدرة الانتاجية على تلبية حاجيات العالم، وسارت الأمور معتمدة على الحس المسؤول لدى كبار المنتجين وعلى تعايش كبار المستهلكين مع هذه المعادلة.
ويأتي خطاب الرئيس ترامب خارج هذا السياق، ويضع المنتجين، خاصة الكبار منهم، في موقع اتهام تخريبي، متجاهلاً مسار الواقع الذي برز منذ عام 1974، وغافلاً عن التضحيات التي قدمتها وما زالت دول التوازن وأبرزها المملكة العربية السعودية وحليفتاها في مجلس التعاون الكويت والامارات.
منذ بدأت الأزمة مع العقوبات الأميركية التي فرضها الرئيس ترامب على إيران، ومنذ بدأت الأسعار في التحرك، قليلاً، ومع صدور أصوات فيها نوع من الهلع، خرجت تأكيدات من أهل الشأن بأن انتاجهم سيزيد وفق الحاجة العالمية ولن يتأخروا في تحمل أثقاله الندرة التي كانت من نصيبهم.
ويمكن للذين صاغوا منظومة العقوبات ضد إيران أن يدرسوا الوسائل التي تضمن لهم نجاح هذه العقوبات، وأؤكد بكل ثقة بأنهم أدخلوا في حساباتهم تعويض النفط الايراني المحظور من المخزون الأرضي في دول الخليج، لأن، بكل صراحة، تطبيق هذه العقوبات سيؤدي إلى أزمة نفطية حادة وسينشغل العالم لإيجاد وسائل التغلب عليها، وسيحدث للعالم هزة سياسية تصاحبها توترات واتهامات وانذارات كما عشناها في أواخر عام 1973 بسبب حظر النفط الخليجي.
هذه المبادرة الصعبة التي ستقدمها دول الخليج لم ينتبه إليها الرئيس ترامب ولو كان فَطِنَ لها لما جاءت منه تلك التهمة التي وجهها إلى دول الخليج التي أشار إلى حمايتها.
الأزمة قادمة وهي أزمة سياسية وأمنية واقتصادية، وستجد إيران منافذ سرية، فلم يشهد العالم النجاح التام لأي عقوبات، وقد تتأثر إيران لكنها مرت بتجارب كثيرة أظهرت فيها قدرة على التحايل وإيجاد بعض البدائل، كما أن الشعب الإيراني يتمتع بمرونة تمكنه من التعامل مع الأزمات، فله صبر طويل، ويرضى بالموجود.
كتب الله على هذا الاقليم الأزمات، بعض شعوبه شهدت عروشاً تلاشت من حماقات، والبعض الآخر ذاق المر من توحش حكامه وأنقذه تدخلات الآخرين، ولا نعرف ماذا سيتولد من هذه الأزمة، ولا أظن بأنها ستمر بهدوء.. وسلام.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد