سائقو الأجرة في دبي يتحكمون بمقود سياراتهم بمهارة، في حين يعجزون عن تصويب وجهة حياتهم كما يتمنون.
ظروف نفسية وذهنية واجتماعية ومادية صعبة يعيشها السائق، الذي يقدر راتبه الشهري بثلاثة آلاف درهم في المتوسط (حوالى 800 دولار)، ويعمل على مدار 12 ساعة في اليوم، فضلًا عن معاناته ظروفًا صعبة، هو المثقل بمشاكل كثيرة في بلده الأم وضغوط أسرية تفرض عليه أحيانًا كثيرة التشتت وغياب التركيز خلال القيادة.
محمد إسماعيل، سائق عمومي في دبي منذ أكثر من 15 عامًا، أتى من بلده باكستان ليعمل في الإمارات ويعيل عائلته ويعلّم أطفاله. "أنا في هذا البلد سائح ولست بسائق. صحيح أنَّ حياتي صعبة وأعيش وحيدًا منذ سنوات طويلة، لكنني أحاول أن أكون إيجابيًا فأعتبر مهنتي سياحة متواصلة، فأتعرف على أماكن وجنسيات ووجوه وشخصيات مختلفة".
إسماعيل، السائق الأربعيني ذو الملامح الواضحة، في عينيه غربة كبيرة يحاول حجبها أو كسرها بالإيحاء لنفسه ولي بأنه بخير. "لا ينقصني شيء سوى احتضاني لأطفالي. اشتقت إليهم كثيرًا، وأعدّ الأيام لأسافر وأقضي وقتًا معهم، مع أنني أراهم باستمرار عبر الفيديو".
جاء كلامه هذا حينما سألته، وأنا أركب معه من الميديا سيتي إلى المارينا، إذا كان مرتاحًا في دبي ومتأقلمًا. "الحمد لله على كل شيء، الحمد لله"، يقول محمد متأملًا السماء.
كيف يكون محمد إسماعيل مرتاحًا وسائق التاكسي يكدّ على مدار 12 ساعة يوميًا في دبي من أجل تحقيق الـ Target، كما يسمونه، أو هدف الـ 10 آلاف درهم في الشهر ليتسنى له الحصول على نسبة منها عبر إيرادات يومية؟ وإذا استطاع تحقيق إيرادات شهرية تزيد على 10 آلاف درهم، يمكنه الحصول على نسبة 34 بالمئة من جملة الإيرادات، وهي بالطبع قليلة جدًا وغير كافية أمام ضغوط الحياة الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها في بلده الأم وفي دبي، التي صُنفت بالمرتبة 15 في العالم كأغلى مدينة في منطقة الشرق الأوسط، حسب تقرير صادر عن شركة Mercer لعام 2024.
عمر، الإفريقي الأصل وتحديدًا من إريتريا، بدا لي السائق المتمرد والغاضب من الظروف والحياة حدّ النقمة. ما إن دخلت سيارة الأجرة حتى بادرني قائلًا: "من قال إنني مضطر للاستسلام لقدري وغير قادر على تغيير ظروفي؟". أجبته: "أنا أؤمن أن الإنسان من واجبه المحاولة أكثر من مرة للوصول إلى أهدافه، لكن الحياة لا يمكن التحكم بها بكل جوانبها، على الأقل حسب تجربتي". قال: "جئت إلى هذا البلد – أي الإمارات – منذ عامين لأنني عجزت عن تأمين رزقي في بلدي، لكنني غير سعيد هنا وغير قادر على التأقلم، وأريد العودة فورًا، لكن أمي تعاني من مرض مزمن وأعالجها على نفقتي”.
كان عمر في تلك اللحظة يقودني إلى مكان عملي، ويقود أحلامه إلى جهة مجهولة هو نفسه لا يعرفها، وتبدو مؤجلة لوقت غير معلوم.
وكأن سائقي التاكسي في الإمارات يحملون أكثر من وجهة نظر وأكثر من شعور وأقل من حقوقهم. يصارعون الحياة على طريقتهم وبأدواتهم، يفرملون أوجاعهم النفسية حينما تصبح عائقًا أمام رزقهم، ويدوسون بسرعة قصوى نحو أهدافهم حينما يكون مصير أحبائهم في رقبتهم وعلى المحك، ويركنون أحلامهم على جنب عندما تتحول رؤية مستقبلهم إلى مشهد ملبد بالغيوم وغير واضحة المعالم.
وهنا لا بد من السؤال: ما هو مصير سائقي الأجرة، وقد وصل عددهم إلى 30 ألفًا في عام 2024، عندما تحول إمارة دبي 25 بالمئة من وسائل النقل عبر المركبات ذاتية القيادة إلى واقع في عام 2030؟
إذا كان هدف مشروع دبي الذكي هو الحد من الحوادث المرورية والخسائر الناجمة عنها بنسبة 12 بالمئة، ورفع إنتاجية الأفراد بنسبة 13 بالمئة عبر تجنب هدر 396 مليون ساعة على الطرقات سنويًا، إضافة إلى المساهمة في تقليل الحاجة إلى المواقف بنسبة تصل إلى 20 بالمئة، حسب هيئة الطرق والمواصلات (RTA)، فماذا عن تأثير التحول المرتقب على سائقي سيارات الأجرة، الذين يمثلون الغالبية العظمى من العمال المهاجرين الآسيويين في بلد يشكل الأجانب 90 بالمئة من سكانه، البالغ عددهم نحو 10 ملايين نسمة، حسب المركز الاتحادي للتنافسية والإحصاء التابع للحكومة الإماراتية؟
"أنا أؤمن بأن الحياة تقودني إلى حيث تشاء، ولا جدوى من مقاومتها"، يقول لي السائق الهندي سانديب، بعد أن سألته ما إذا كان يفكر بالعودة إلى مومباي التي ينتمي إليها. أخبرني بأنه متزوج منذ كان في العشرين من عمره، وقد انتقل للعيش في الإمارات بعد زواجه بسنة واحدة، ولا يزال حتى الآن، وقد تجاوز الخمسين من عمره حاليًا. "الإمارات تغيرت كثيرًا، لكنني سعيد بكل الأحوال، ولا أشتكي أبدًا. وقد تعودت على العيش بمفردي ووحيدًا رغم صعوبة المسألة”. يتابع بحسرة: “الحياة لا تعطينا كل شيء، وأنا متأكد أنكِ أنتِ أيضًا – يقول لي – تفتقدين للكثير من الأمور غير المتوفرة لديك".
بالفعل، ما قاله سانديب حقيقي وواقعي. ليس سائق الأجرة وحده في الإمارات هو الفاقد لبوصلة أحلامه وحياته، الركاب أيضًا يفتقدونها، ولو أنهم يعتقدون أو يتوهمون، وهم جالسون في المقعد الخلفي، بأنهم يتحكمون بوجهتهم وسرعة الوصول إلى عناوينهم. هم ليسوا سوى ركاب، وهو ليس سوى سائق في سيارة أجرة.