الدبلوماسية ليست خطابات جوفاء، ولا بيانات تُلقى لتنسى. إنها فنُّ صياغة المستقبل، ورسمُ معالمِ التغيير حين يبدو المشهد معتماً، وإيجادُ الحلول حين تتعقد الأزمات. من الرياض إلى دمشق، ومن أروقة السياسة إلى ميادين العمل الإنساني، تمضي السعودية بثبات، لا ترفع الشعارات، ولكن ترفع المعاناة... تكتب التاريخ، وتُعيد رسمه؛ حيث لا يمكن للعالم أن يبقى رهين الماضي، ولا يمكن للأوطان أن تُبنى وسط الخلافات.
ليس سرًّا أنَّ الأزمة السورية قد تحولت إلى اختبارٍ حقيقي لقدرة العالم على تحقيق السلام، لكنه اختبار فشل فيه الكثيرون، حين اكتفوا بالمراقبة عن بُعد، تاركين السوريين بين أنياب العقوبات وعتمة الحصار. ولكن في السياسة، كما في التاريخ، هناك من يختار أن يكون جزءًا من المشكلة، وهناك من يُصرّ على أن يكون جزءًا من الحل. وهنا، كانت السعودية، حيث تُمارس الدبلوماسية كلغة، وكأداة للتغيير.
دعم سوريا اليوم ملف سياسي معقد، وجزء من "الهندسة الدبلوماسية الجديدة" التي تتقنها السعودية، حيث تُعاد صياغة معادلات القوة والتأثير بعيدًا عن سياسات الاستقطاب، وبعيدًا عن وهم التحالفات العابرة، إلى بناء إستراتيجيات دائمة تؤمن بأن الاستقرار ضرورة وجودية وليس خيارًا مؤقتًا.
حين دفعت الرياض المجتمع الدولي نحو إعادة التفكير في العقوبات، كانت تُمارس سياسة الممكن، ذلك الفنُّ الذي يلتقط الفرص حين تضيع، ويصنع الحلول حين تتعثر الأبواب. فالسعودية، التي لم تغلق بابها أمام القضايا العربية، أدركت مبكرًا أنَّ العقوبات، وإن بدت أداة ضغط، لا تكتب سيناريوهات الحلول، حيث تُفاقم الأزمات، وتصنع اقتصادًا موازياً لا يستفيد منه إلا أولئك الذين يتقنون العيش في الظل.
لكن الحديث عن دعم سوريا لا يتوقف عند غرف الاجتماعات المغلقة ولا عند لغة البيانات الدبلوماسية. السعودية وضعت خارطة دعمٍ حقيقية، تجاوزت الشعارات السياسية إلى العمل الميداني، فتدفقت المساعدات الإنسانية والاقتصادية، إيمانًا بأن الدول لا تُبنى بالمواقف الرمادية، بل بالقرارات الشجاعة.
485 مليون ريال سعودي لدعم قطاع الطاقة، لأنَّ إعادة الإعمار إنارة المدن التي أطفأتها الحرب...
308 ملايين ريال للمساعدات الإنسانية متعددة القطاعات، لأنَّ الإنسان لا يُمكنه أن ينتظر تسويات السياسة ليحصل على أبسط حقوقه في الحياة.
160 مليون ريال لدعم الأمن الغذائي، لأنَّ الطموح لا يمكنه أن ينمو في معدة خاوية.
مئات الملايين الأخرى توزعت بين الصحة والتعليم والنقل، لأنَّ المستقبل ليس مشروعًا مؤجلًا، وإنما عملية بناء تبدأ اليوم.
وفي زمنٍ أصبحت فيه بعض العواصم تتعامل مع الأزمات كأوراق مساومة، اختارت السعودية أن تُعيد تعريف دورها كقوة عربية مسؤولة، ترى في الأمن والاستقرار مشروعًا طويل المدى، وليس صفقة سياسية تخضع لمعادلات الربح والخسارة.
دعت المجتمع الدولي إلى تخفيف العقوبات، لأنَّ الحلول لا تُبنى فوق الحصار.
نجحت في دفع واشنطن لإصدار إعفاءات، لأنَّ الواقعية السياسية لا تتعارض مع المبادئ.
أقنعت الاتحاد الأوروبي بتعليق بعض العقوبات، لأنَّ الدبلوماسية توازنات يجب أن تُدار بحكمة وليست لعبة استنزاف.
اليوم، وبعد كل هذه الجهود، لا بد من طرح السؤال الأهم: إلى أين تتجه سوريا في المشهد الإقليمي الجديد؟ فالعالم العربي لم يعد كما كان، ولم تعد التوازنات قائمة على معادلات قديمة. وسوريا، إن أرادت أن تعود فاعلة، فإنَّ أمامها طريقًا طويلًا من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، لكن الأهم من ذلك، أن تجد من يقف معها في رحلتها نحو التعافي.
هنا، تتأكد حقيقة واحدة: السعودية كانت وستظل صانعة للتوازنات، وحاملةً لمشاريع الاستقرار، حيث يكون القرار سياديًا، والالتزام أخلاقيًا، والدور العربي حاضرًا.
ففي السياسة، كما في التاريخ، ليست كل الدول قادرة على إعادة كتابة الفصول التي ظنّ العالم أنها انتهت، لكن السعودية تفعل ذلك، لأنها ببساطة، تؤمن بأن المستقبل صناعة.