: آخر تحديث

رشيد الخيون… حفّار الزمن ومروض الأسئلة

8
8
8

في الرياض التي تؤدي اليها كل الطرق، تحت سماءٍ تعرف أسرار الصحراء، وفي مدينةٍ تتقاطع فيها الأزمنة، التقيتُ برشيد الخيون، ولم يكن لقاءً عابراً بل انفتاح نافذةٍ على فكرٍ يمزج بين حدة النقد وعمق المعرفة وهدم الخرافة، لم يكن رجلاً يمرّ في الزمن، بل كان حفّارًا في طبقات التاريخ، لا ليجمّلها أو يلعنها، بل يعيد تشكيل ملامحها كما هي، بلا أقنعة ولا زيف ولا مكياج. كان صوته امتداداً لقلمه (الباركر) الذي يتطرف بوصف محاسنه أمَّا حديثه فيشبه سطوره، لا يخلو من الحدة حين يستدعي الأمر، ولا يفتقر إلى الحكمة حين يكون الصمت أفصح من الكلام وكم مارس لعبة الصمت مع من جالسهم، في كل فكرةٍ طرحها وجدتُ نفسي بين انجذابٍ وتساؤل، بين إعجابٍ ورغبةٍ في أن أسترسل أكثر، أن أختبر حدود فكره، أن أسبر أغواره كما يسبر هو أغوار الوقائع التي يكتبها.

ليس اللقاء برشيد الخيون كأي لقاء، فهو أشبه بالدخول إلى مختبرٍ زمني، حيث تتشابك الحقائق، ويُعاد تفكيك المألوف ليكشف عن غير المعلوم، الخيون الذي يهرب من حرف (د) الذي يسبق اسمه لا يتحدث كمن يريد أن يُلقي دروساً ولا ينظر إلى التاريخ كما ينظر المؤرخون التقليديون، بل يعامله ككيانٍ حيّ، يتنفس، يتحرك، يتغير وفق العقول التي تجرؤ على قراءته بعيونٍ جديدة وحين يتكلم لا تسمع كلمات، بل تحسّ أنك أمام معركة، بين ما كنت تظنه ثابتاً وما يريدك أن تراه من زوايا أخرى لم تعتدها.

لم يكن الحديث معه مجرد نقاشٍ فكري، بل كان اختباراً حقيقياً للوعي، حيث لا مكان للمسلّمات، ولا وجود لمناطق آمنة. كل فكرةٍ تطرقها تصبح موضع مساءلة، كل رأي يحمل في طياته دهشةً جديدة، وكأن التاريخ لم يُكتب كما قرأناه، بل كما يُعيد رشيد الخيون كتابته، لا ليحرفه، بل ليجرده من زوائد الزمن، من أوهام السلطة، من إسقاطات المتأخرين على المتقدمين. في صوته كنتُ أسمع صدى الحقب التي بحث فيها، في نبرة كلماته كنت أرى الأثر الذي تركته السنين وهو يحفر في بطون الكتب، في ملامحه قرأتُ ملامح الباحث الذي لا يهدأ، ولا يرضى بأن يكون مؤرخاً عادياً ، بل شاهداً يُعيد تشكيل الصورة بمنطقٍ أكثر عدالة.

في كل لقاء جمعنا في اروقة المنتدى السعودي للإعلام، شعرتُ وكأنني عبرتُ قروناً من المعرفة، قفزتُ بين الحضارات، تنقلتُ بين المتصوفة والفلاسفة وقدماء الشيوعيين وأباطرة الجدال، أتجول مع الخيون بين السلاطين والمنبوذين، بين الأساطير التي صيغت لتكون حقائق، والحقائق التي أُهملت حتى صارت شبه خرافات، لم يكن مجرد مؤرخ بل كان مُروضاً للأسئلة، يأخذ أكثر القضايا حساسية، ويعيد تفكيكها بلا وجل، كأنه جراحٌ لا يخاف أن يفتح الجرح ليكشف حقيقته.

والقارئ أمام نصوصه ليس متلقياً مسترخياً، بل مسافرٌ عبر الزمن، تتقاذفه الأحداث، يواجه الأسئلة، يفتح نوافذ ظنها موصدة، ويكتشف أن ما ظنه حقيقة راسخة، لم يكن سوى ظلٍ لحقيقةٍ أخرى طُمست تحت جبروت العابرين ، إنه لا يعيد قراءة التاريخ فحسب، بل يُجبرك على إعادة قراءته معه، بعينٍ لم تتلوث بالروايات المُعلبة، وبذهنٍ لم يُكبل بقيود المألوف. وهنا تكمن فرادته، فحين يكتب عن التصوف لا يغازله كما فعل العشاق، ولا يجلده كما فعل الناقمون، بل ينظر إليه كظاهرة إنسانية، تحمل تناقضها داخلها، بين الروحانية العميقة، والاستغلال المتخفي في أردية الزهد. وحين يتناول الأديان والمذاهب، لا يكون واعظاً ولا قاضياً ، بل دارسٌ يزيح الغبار عن طبقاتٍ من التاريخ، ليُعيد للقارئ حقه في الفهم، بعيداً عن قوالب الجاهز والمُلقّن.

في زمنٍ صار فيه الفكر سلعةً تُسوّق لمن يدفع أكثر، وحيث تُكتب الكتب لتدعيم الروايات السائدة لا لكشف الحقيقة، يأتي قلم رشيد الخيون ليكسر هذه القاعدة، لا يهادن، لا يساوم، ولا يخشى أن يكون الصوت النشاز في جوقة التطبيل الجماعي. إن القراءة له ليست نزهة فكرية، بل مغامرة، صدام مع المسلمات، مواجهة مع الظلال التي التصقت بالجدران حتى ظنها البعض جزءاً من بنيانها ، رشيد لا يمنحك الراحة، بل يمنحك هزةً معرفية، توقظ فيك شهوة السؤال، وتكسر في داخلك وهم الامتلاك الكامل للحقيقة.

ومع ذلك، لا يتخذ خيون موقفاً المتعالي على القارئ والمستمع، لا يكتب وكأنه في برجٍ عاجي ينظر إلى الناس من أعالي جبال المعرفة بل هو المبحر وسط عاصفة التساؤلات، لا يقدّم الأجوبة كمسلمات، بل يتركك في قلب العاصفة، يدعوك للغوص معه، للبحث، للنبش في زوايا لم تكن تتخيل وجودها. هنا تكمن عظمته، فهو لا يُعطيك الحقيقة على طبقٍ من فضة، بل يُشعلك شغفاً للبحث عنها بنفسك.

وربما لهذا السبب، لا يصلح الخيون لمن يبحث عن طمأنينة فكرية، ولا لمن يريد أن ينام قرير العين على وسادة الأجوبة الجاهزة، بل هو لمن تستهويه الحيرة، لمن يدرك أن التساؤل هو أول الطريق إلى الحكمة، وأن العقل الذي لا يضطرب أمام المعرفة، هو عقلٌ ميتٌ وإن ظنّ غير ذلك ، إنه كاتبٌ يفتح الجرح لا ليؤلم، بل ليُعالج، يقلب الأوراق لا ليبعثرها، بل ليعيد ترتيبها من جديد.

وفي عصرٍ بات فيه كل شيء قابلاً للتسليع، من الحقيقة إلى الضمير، من الفكر إلى المبادئ، يظل رشيد الخيون وقلمه (الباركر) الانيق استثناءً نادراً ، رجلٌ لم يكتب ليجاري العصر، بل كتب ليخترقه، لم ينحني أمام الموجة، بل صنع موجته الخاصة، ليس مؤرخاً تقليدياً هو شاهدٌ على الزمن، لا يسجّله كما يمليه المنتصرون، بل كما يجب أن يُروى، بلا أقنعة، بلا تزييف، بلا مجاملة للسلطة، أيّاً كانت تلك السلطة، سياسيةً كانت أم دينية أم فكرية.

وإذا كان لكل عصرٍ صوتٌ يُجبرك على الإصغاء، فإن رشيد الخيون هو ذلك الصوت في زمننا، الصوت الذي لا يهدأ، ولا يُهادن، ولا ينحني إلا للحقيقة. وإن كان البعض يختارون أن يعبروا الحياة كعابري السبيل، بلا أثرٍ يُذكر، فإن الخيون بقبعته الماركسية العتيقة اختار أن يكون نقشاً على جدار الزمن، نقشٌ لا تمحوه الرياح، ولا تطمسه عتمة الجهل، لأنه وُجد ليبقى، ليقول كلمته، وليترك أثره، مهما علا الضجيج من حوله.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف