إن كان بالإمكان التعرف مسبقاً على موعد الولادة، فلماذا لا يمكن التنبؤ بموعد الموت؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بدنو ساعة الأجل؟ باحثون يقولون إنَّ ذلك بات ممكناً، من خلال "حاسبة الموت الذكية".
في عالمٍ يتدفق ألواناً وأشكالاً، يسجّل كل فرد حكايته الفريدة بأحداث نابضة، تشكل لوحة فنية مؤثرة ومعقدة. تتداخل أحداث الحياة كضربات ريشة فنان تملأ العمل الفني بالمفاجآت والتناقضات. تعكس الأشكال والألوان التجارب المألوفة بدءًا من الطفولة ومروراً بمراحل مختلفة من الحياة، وصولاً إلى الموت!
في هذا السرد، نكتب حياتنا بألوان متداخلة، تجتمع لتكوّن لوحة فريدة لا تشبه إلا راسمها، واسمها الحياة... إنها رقصة الإنسان مع الوقت، تظهر فيها المفاجآت بأشكال وألوان متنوعة: الفرح والحزن، النجاح والفشل، الأمل واليأس، الصخب والهدوء... إلخ.
ما إن يتسارع نبض الحياة ويتقدم بنا العمر، حتى يظهر في الأفق ظل غامض ومخيف، وإن كان يختزن تشويقاً وإثارة، اسمه "الموت".
لكن ماذا لو أدرك الإنسان مسبقاً موعد دنو أجله؟ هل هذا ممكن فعلاً؟ وإن حدث ذلك، أكنا لنكتب حكايتنا بأسلوب مختلف؟ وما الذي يتغير؟ أيظلّ العالم كما نعرفه؟ هل تتخلخل المعتقدات وتهتز الثوابت؟
بحث علمي أثار فيَّ الفوضى والعجب، حيث ينكب باحثون غربيون على وضع خوازمية ذكية، يسمونها "حاسبة الموت"، تعمل بالذكاء الاصطناعي، وقادرة على أن تكشف لمستخدمها موعد الرحيل… وبل وأحيانًا تفاصيل ذلك الموعد، وزمانه، وما يصاحبه ويرافقه!
لطالما أشعل المستقبل فضول الإنسان التواق أبداً إلى معرفة ما يحمل الغد، استعداداً للأفضل أو الأسوأ. وهكذا، تستقطب التنبؤات، بأنواعها، الانتباه، تصديقاً أم تسلية ومرحاً. وإن صحت تنبؤات الفلكيين أو "المشعوذين" أو أولئك الذين يكلفون أنفسهم عناء السفر ذهاباً وإياباً عبر الزمن، زعماً بأنهم يحملون معهم حقائق الغد، لانتقلت البشرية جمعاء إلى مصحة عقلية من هول التوقعات المظلمة.
على نقيض تقف "حاسبة الموت الذكية" متسلحة بالبيانات الكبيرة (Big Data)، ومصبوغة بصفة علمية، لتقدم معطيات جديرة بالتأمل، مستشكفة متاهة الحياة باستخدام أداة غير تقليدية: اللغة.
تتمحور الفكرة حول إمكانية إدراك الحياة بنفس الطريقة التي تُفهم بها اللغة؛ كسلسلة من الأحداث والتجارب. وبدأ الباحثون بجمع "مفردات" تعكس أحداث الحياة، ثم حولوها إلى بيانات يمكن أن تكون مرجعاً للغة جديدة، واتقنوا فن بناء "الجمل" باستخدام تلك المفردات، حيث تمثلت إحدى الجمل في عبارة مثل:
"خلال السنة الثانية من المرحلة الجامعية، تدرجت سمر في صحيفة محلية بينما كانت تكمل خمس مواد إلزامية بنجاح".
لكن كيف ذلك؟ يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على رسم ملامح المستقبل من خلال تحليل سجلات حياة الفرد. يقوم بترميز تفاصيل حياته بحذر، يفكك الوقائع والحقائق الخاصة به، ويحوّلها إلى بيانات يمكن استخدامها لاستشراف مستقبله... أو ببساطة لاستشراف يومه الأخير! وهذا ما تقوم عليه خوارزمية life2vec التي أتاحت لفريق البحث تسجيل تقدم ملحوظ من خلال تطوير برنامج يعمل بطريقة مشابهة لنماذج اللغة (LLMs) التي منها يتوقع Chat GPT مثلاً ما ستكون الجملة التالية.
وباستخدام بيانات السجلات الدنماركية، بما تشمل من معلومات يومية عن التعليم والدخل والعمل وساعات العمل ومكان الإقامة وحتى زيارات الطبيب... وما إلى ذلك، نجحت خوارزميات life2vec بتحويل حياة الإنسان، المليئة بالتفاصيل والتعقيد، إلى مادة قابلة للتحليل والفهم.
في عرض الاختبارات، أخذ الباحثون عينة من مئة ألف فرد، تنتمي للفئة العمرية بين 35 و65 عامًا، وأخضعوها للتحليل الدقيق. أبحرت حاسبة الموت الذكية في الملخصات، تحت راية اكتشاف العلاقات المماثلة بين الأحداث والمفردات، وجاءت النتائج مثيرة للدهشة. بالاستناد إلى سجلات نحو ستة ملايين شخص في الدنمارك للفترة ما بين عامي 2008 و2015، نجحت الخوارزميات الذكية في تقديم توقعات صحيحة بنسبة 79 بالمئة، اذ حددت من قضى من أفراد العينة بين عامي 2016 إلى 2020 ومن ظل حياً، مسجلة نتائج تستحق التقدير والإعجاب. وفيما يؤكد الباحثون إمكانية التوقع الدقيق، يظهر البحث أن "حاسبة الموت الذكية" نجحت في التنبؤ بالفترة الزمنية للوفاة بدلاً من تحديد التاريخ بدقة.
ويبدو أن توقع الموت باستخدام خوارزمية life2vec يأتي محفوفاً بالمخاطر، وخصوصاً تلك المتعلقة بالخصوصية، وإمكانية استغلال هذه البيانات والسجلات الخاصة لأغراض تجارية. أضف إلى ذلك أن ما يصح في الدنمارك قد لا يكون قابلاً للتطبيق في بلدان أخرى، إذ نجاح خوارزمية الموت يرتبط بكم البيانات المتوفرة في سجلات الأفراد. ومع ذلك، فمن المثير متابعة تطور هذه التكنولوجيا.
إنه عصر فريد وذكي وسريع، يُلقي بظلاله على حياتنا اليومية بحاضرها والآن يتوقع مستقبلها، ويعزز موقف أولئك الذين يستطيعون قراءة سطورنا، حتى قبل أن نكتبها!
مع التطور، تطفو سحابة من التساؤلات في رأسي، كأنني في نهاية فصل مثير من رواية لم أكمل قراءتها، وأترقب الآتي… وهو أذكى لا محالة، وأعجز عن الإجابة عن سؤال يشغلني: لو كان بإمكاني الاختيار... هل أفضل معرفة موعد موتي أم أترك الأمر طي الغيب؟