: آخر تحديث

أهمية الحوار السياسي والفكري في المجتمعات العربية

98
103
101
مواضيع ذات صلة

من اهم الحقائق الكونية التي تحتاج الى إدراك واستيعاب هي حقيقة التعدد والتنوع في هذا الوجود، وهي قاعدة وجودية شاملة وناموس كوني ثابت لا يمكن الغاؤها والقضاء عليها تحت أي ذريعة او مسمى، والسعي ناحية الإلغاء هوي سعي عقيم لأنه يخالف الثوابت الكونية في هذا الوجود. والصراعات والنزاعات التي شهدتها البشرية في الماضي ولا تزال تشهدها في الحاضر لم تنشأ بسبب الاختلاف والتنوع وانما بسبب العجز عن الاتفاق على هدف مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها لأنفسهم. والحوار بين الانسان وأخيه الانسان من المنافذ الأساسية لتحقيق الأهداف المشتركة من اجل حياة اجتماعية سوية.

الحوار لا يدعو صاحب الرأي او المعتقد المخالف الى ترك موقعه السياسي او الفكري، وإنما هو لاكتشاف المساحة المشتركة مع الأطراف الأخرى وبلورتها والانطلاق منها في النظر الى الأمور وتحليلها. والحوار بين الأطراف السياسية والفكرية يفتح افاق التعاون ويبلور اطرها، ويدخل الجميع في مسيرة الدفاع عن الثوابت والأهداف المشتركة ومواجهة التحديات. والحوار كذلك يساعدنا على اكتشاف ذواتنا ويقوي خيارات التواصل والتعارف بيننا، ويدفعنا جميعا الى التخلي عن الخيارات العنيفة التي تمارس النبذ والاقصاء.

على المستوى السياسي، الحوار والتواصل بين القوى السياسية يساهم في تبديد حالة الجمود التي تعانيها هذه القوى، كما يفتح افاق الحل والمعالجة لحالات ضيق الأفق التي تعانيها في مجالات مختلفة. والدعوة الى الحوار هي وسيلة الانسان الحضارية للتعرف الى الآخرين من اجل كسر حواجز الجهل وتعميق عوامل المعرفة المباشرة والتفصيلية بالآخر حتى يتوافر المناخ النفسي والمعرفي والاجتماعي لخلق نمط انساني وحضاري للعلاقة بين مجموع الأطراف المتحاورة. والحوار هو وسيلتنا وخيارنا لتحجيم هواجس بعضنا عن بعض، ومحاصرة سوء الفهم والظن وموروثات الماضي، كما انه يخلق عوامل الثقة المتبادلة وأسباب التعاون والتضامن على قاعدة احترام الرأي الآخر.

الحوار لا ينحصر في مجرد تداول الأفكار والقناعات وإنما يتعدى ذلك من اجل فتح مجالات جديدة للتفكير والعمل نحو توفير الأسباب والعوامل المؤدية الى تعميق خيار العدل والمساواة في المجتمع. لذلك فإننا ضد كل اشكال الحوار التي تبرر الظلم او تسوغ التفاوت الاجتماعي الصارخ او تدعو الى تبني نظرة شوفينية او عنصرية او طائفية تجاه الآخرين. ونحن كذلك ضد الحوار الذي يدعو الى الخضوع والخنوع والاستسلام للقوى المتكبرة والمتجبرة التي تحاول ان تمارس منطقا استعلائيا وعنصريا تجاه الأمم الأخرى. ونحن مع الحوار الذي يدعو الى نبذ الظلم ومحاربته واجتثاث جذوره ومسبباته من المجتمع والأمة ونصرة المظلومين. قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".

أما على المستوى الفكري، فالحوارات الفكرية تستهدف خلق التراكم المعرفي والمشاركة في الرأي والأفكار، والتواصل الإيجابي بين المهتمين بشؤون الفكر والثقافة يؤدي الى بلورة الأفكار وانضاجها. إن من أعمق المشكلات التي نواجهها هي المشكلة الفكرية/الثقافية التي تلقي بظلها على تفاصيل حياتنا اليومية، التي نرى جذورها في طريقة تفكير إنسان مجتمعنا وطبيعة شخصيته ونوعية طموحاته. ونظرة فاحصة الى المشهد السياسي والفكري العام في مجتمعاتنا تدفعنا الى الاعتقاد الجازم بضرورة تطوير منظومة مفاهيمية سياسية وفكرية جديدة منسجمة ومتناغمة، وتواكب متطلبات اللحظة التاريخية التي نعيشها. وبدون هذه المنظومة سنبقى نعيش الفوضى السياسية والفكرية والمعرفية، ونلهث وراء شعارات وعناوين لا تزيدنا إلا ابتعادا عن مقاصدنا واهدافنا وغاياتنا الكبرى.

وتبرز هنا حاجتنا الى تطوير كل ما له صلة ودور في تحريك الأفكار المترسبة، وتطوير النظريات المؤدية الى خلق منظومة فكرية جديدة تأخذ على عاتقها تعبئة قوى المجتمع في مشروع النهضة والعمران الحضاري، وهذا بحاجة الى تكثيف قيم التواصل الفكري والمعرفي والإبداعي بين مختلف المدارس السياسية والفكرية والثقافية. كما اننا في حاجة ماسة الى ممارسة النقد البناء ليس من اجل الدحض والنقد، وانما لتوليد رؤى وأفكار وصيغ جديدة تحرك عقولنا وتستفز الساكن من افكارنا وتدفع الجميع نحو المزيد من الحوار والتلاقي.

إن مفهوم الحوار ينطوي على قدر من المراهنة على تأسيس لواقع جديد لحياتنا السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، والانسان الذي لا يحسن الحوار مع من يخالفه الرأي لن يستطيع ان يطور علاقاته مع المتفقين معه، وذلك لأنه يفتقد القدرة المؤهلة لترتيب علاقاته مع كل الدوائر المحيطة به. يقول المفكر السيد محمد حسن الأمين: "إن الحوار بحاجة الى ثقافة وفكر يحترم الفروق والتنوع، ويرى ان الحقائق المجتمعية ماهيات مركبة ذات وجوه وابعاد لا جواهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد. إنه فكر يجيد التبادل والتأليف انطلاقا من توسط مشرف من غير ان يجنح الى دمجه كلامية تلغي المسافات والتخوم او يقع في تفريعية انقسامية تقطع العلائق وتعدم التواصل".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في