: آخر تحديث

قراءة في كتاب (إبادة الكتب) – 2/2

73
90
78
مواضيع ذات صلة

في كتابها الرائع بعنوان " إبادة الكتب – تدمير الكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين"، تقول المؤلفة "ربيكا نوث" الأستاذة بجامعة هاواي- برنامج علوم المكتبات والمعلومات - عن أهمية المكتبة في الحضارة الإنسانية: إنه ما دامت الحضارة موجودة، فإن حفظ الخبرة والذكاء الاجتماعي أو "المعرفة" ضرورة ملازمة. في هذه المقالة، سوف نعرض لما فعله الألمان بالكتب والمكتبات خلال احتلالهم لبعض الدول الأوروبية إبان الحرب العالمية الثانية، وما فعله الصرب في كرواتيا والبوسنة والهرسك خلال الحرب الأهلية، وما فعله النظام العراقي السابق خلال احتلاله للكويت، وما فعله "ماو تسي تونغ" واتباعه خلال الثورة الثقافية.  

صعود النازية

تقول "المؤلفة" إنه ربما تكون ألمانيا الهتلرية هي الحالة المثالية التي نستكشف من خلالها تدمير الكتب والمكتبات في القرن العشرين. فقد قتل النازيون ما يقرب من 21 مليون رجل وامرأة وطفل في خضم حرب كانت في الأصل صراع أفكار. وبالإضافة إلى ذلك فقد سعى النازيون إلى الاستيلاء على التراث الثقافي لأعدائهم أو محوه في أثناء موجات العنف الذي سوغته الفكرة "الداروينية" التي كان قوامها تفوق العرق الآري. وفي أثناء سعيهم إلى تحقيق هذا المصير، استخدم النازيون تدمير الإرث القومي والإثني سلاحا من أسلحة الحرب، وأداة للإبادة الثقافية أو الحط من قدر الثقافات الأخرى.

وهكذا، اعتبر النازيون أنفسهم ذروة سنام الثقافة والحضارة، فباشروا ارتكاب بعض أفظع الجرائم ضد الإنسانية التي سجلت في التاريخ على الإطلاق. فقد رخّص الحزب النازي للشعب الألماني إطلاق غضبه ضد اليهود، وأطلق العنان لوحشية كبحت فيما مضى بأعراف المجتمع المتحضر وقيمه. وبدءاً من العام 1933م، جرد اليهود بصورة منهجية من حقوقهم الاجتماعية والمدنية والقانونية، وطرد المواطنون اليهود من الخدمة العامة، وحرموا من الحماية المكفولة للعمال، وقوطعت مشاريعهم التجارية وأُغلقت.

هذه الإجراءات قصد بها أكثر من مجرد استهداف الوجود المادي لليهود، فقد طهرت جميع المؤسسات من الأثر الثقافي اليهودي، إذ أحرقت الكتب في أثناء تطهير المكتبات من المحتوى اليهودي. في الوقت نفسه، فقد استمد أعضاء الحزب النازي رضى كبيرا من إحراق المعابد اليهودية وآثار اليهود الثقافية، وكذلك تم إحراق آثار وكتب يهودية بما فيها زهاء 16 ألف مجلد في مركز الجالية اليهودية في فرانكفورت. وقد بلغ مجموع الكتب اليهودية التي سرقها الألمان في آخر الأمر نحو مليوني كتاب، وقد جند باحثون وأكاديميون ورجال أعمال يهود للعمل بالسخرة على تصنيف مقتنيات الكتب هذه في ظروف أشبه بمعسكرات الاعتقال.

الوضع لم يختلف كثيرا في بولندا وأوروبا الشرقية، حيث تعرضت الشعوب المقهورة للمعاناة ذاتها. فبعد الغزو الألماني مباشرة، أصدرت الحكومة الألمانية مرسوما بتسليم جميع الكتب البولندية التي يملكها أفراد أو شركات أو جمعيات غير ألمانية إلى السلطات، ونهبت المكتبات الخاصة ودمرت واستخدمت كمادة خام لمصانع الورق أملا في تجويع العقل البولندي وإذواء الطبقة المثقفة فيه.

أما في أوروبا الغربية، فقد تم تدمير مكتبات عديدة في المنطقة الشمالية من فرنسا، كما أدت المقاومة البريطانية إلى خسائر فادحة لنحو 20 مليون كتاب، وتضررت خمسون مكتبة كبرى في أنحاء بريطانيا أو دمرت في الغارات الجوية. وتؤكد "المؤلفة" أن برنامج هتلر الأيديولوجي، الذي صدم بقية أوروبا، قد جلب بدوره الخراب إلى ألمانيا وإرثها الثقافي. فمع نهاية الحرب العالمية الثانية، فقدت ألمانيا ما يتراوح بين الثلث والنصف من كتبها، خلال القصف الذي شنه الحلفاء وبسبب حملات المصادرة الروسية، إذ تُقدر الكتب التي حملت إلى الاتحاد السوفيتي بوصفها غنائم حرب نحو 11 مليون كتاب.

 صربيا الكبرى

النموذج الثاني الذي تعرج عليه "المؤلفة"، هو النموذج الصربي، الذي شهد إبادة تامة للعديد من مظاهر الثقافة والتحضر إبان الحرب العرقية في تسعينيات القرن العشرين. فقد استخدم الشيوعيون في أوروبا الشرقية تكتيكا مختلفا في تعاملهم مع انقسامات زمن الحرب، فقد فرضوا عقائد وسياسات من قمة الهرم إلى أسفله، أعدت للقضاء على المنافسات الاجتماعية السياسية بمرسوم إداري تسلطي.

في أواخر الثمانينيات وطد "ميلوسيفيتش" هيمنته ووسع نطاقها عن طريق تفكيك القيود الدستورية على سلطته الشخصية بوصفهرئيسا لصربيا، وكان أحد المكونات الرئيسة في خططه تتمثل في أن يسيطر على الجيش اليوغوسلافي. وبحلول العام 1990م، ووفقا لما قاله السفير الأميركي في يوغوسلافيا، كان الجيش قد طهرت صفوفه من غير الصرب، وانغمس في أوهام معاداة الألمان والغرب، فصار بحسب ما تذكر "المؤلفة" كيانا متصلبا ونرجسيا، ومسكونا بالبارانويا ومترهلا وجامحا.

ومن بين كل جمهوريات "يوغوسلافيا السابقة" كانت البوسنة والهرسك أكثرها ثراء وتنوعا ثقافيا، حيث تعايشت كثافات سكانية كبيرة من الصرب والكروات والمسلمين، إذ كانت البوسنة والهرسك دولة متعددة الإثنيات عاشت فيها الجماعات الإثنية الثلاث جنبا إلى جنب، في ظل مناخ يغلب عليه التسامح والتحضر.

وفي شهر مارس 1991م صوت 68% من البوسنيين لمصلحة الاستقلال في استفتاء شعبي مدعوم دوليا، بينما أحجم الصرب الذين يمثلون ثلث السكان عن التصويت، وبمجرد إعلان الاستقلال اجتاح الجيش اليوغوسلافي الذي يسيطر عليه الصرب البوسنة.تؤكد "المؤلفة" على أنه كانت هناك خطة كاملة تستهدف محو الثقافة الإسلامية في البوسنة، فقد كان القادة المسلمون العلمانيون والمتخصصون المثقفون والمتعلمون أول من أعدموا، كما اتبع الصرب طريقة استهداف أثرى الأثرياء، والأعلى تعليما، والقيادات السياسية والدينية.

وتبيّن "المؤلفة" السبب في استهداف الصرب للمكتبات البوسنية، وهو أنه بداخل المكتبات ودور المحفوظات والمتاحف والمساجد التي دمرت، كانت هناك سجلات حيازة بخط اليد وخرائط يرجع تاريخها إلى زمن العثمانيين، وتظهر أن السلافيين الذين اعتنقوا الإسلام عاشوا في البوسنة منذ قرون، كان لزاما تدمير الوثائق التي تظهر شرعية المطالب التاريخية للمسلمين في البوسنة، لأن هذه الوثائق تناقض تماما المزاعم الصربية التوسّعية بأن البوسنة لا تملك شرعية الوجود بوصفها أمة، أو بوصفها حضارة مستقلة.

دمر "الصرب" بقصفهم المعهد الشرقي في سراييفو في العام 1992م أكبر مجموعة مخطوطات إسلامية ويهودية ووثائق عثمانية في جنوب شرق أوربا، وضمت الخسائر أيضا مجموعة المخطوطات التركية التي تحوي أكتر من سبعة آلاف وثيقة يرجع تاريخها إلى الفترة من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر.

الغزو العراقي للكويت

كان العنف الاجتماعي والثقافي المفرط الذي عصف بالكويت امتدادا لسياسات الاخضاع والإرهاب التي مورست عقودا طويلة داخل العراق نفسه، فالتأثيرات الغربية المتجلية في قيم انسية تدعم الى حد ما، على الأقل، التفكير النقدي والوصول الى المعلومات من دون عوائق، والتي قضي عليها منذ زمن في العراق، كان لا بد من اجتثاث جذورها في الكويت أيضا. وأسرع طريق لتأكيد السيطرة على المعلومات والتاريخ ووسائل الاعلام والحياة الفكرية في الكويت كان بتسوية البلاد بالأرض ثم إعادة تشييدها او عدم تشييدها وفق المواصفات العراقية.

وبوصف المكتبات معالم للهوية، ومحفزات اجتماعية ثقافية، فإنها مثلت أهدافا عسكرية معقولة. قبل الغزو كان في الكويت 23 مكتبة عامة، و572 مكتبة مدرسية، و29 مكتبة اكاديمية، و69 مكتبة متخصصة ومركز معلومات. دمرت جميع هذه المكتبات عن عمد، فكانت ضحايا سياسة لا معارك. وبعد العدوان، اتضح ان نهب شبكات المعلومات الكويتية او تدميرها كان سياسة أساسية في الاستراتيجية المزدوجة الهادفة الى الارتقاء بالعراق ومحو الكويت بوصفها دولة عربية ذات سيادة وريادة إقليمية.

الثورة الثقافية في الصين

أطلقت الثورة الثقافية رسميا في شهر مايو 1966م بتعليمات مكونة من 16 بندا أصدرها الحزب الشيوعي الصيني. وبعد شهر واحد، أي في بداية يونيو 1966م دعت الجريدة القومية البارزة "صحيفة الشعب اليومية" الى مشاركة جماهيرية في حملات التطهير ضد أي شخص يعارض سياسات ماو وافكاره. وجهت الهجمة الأولى ضد الجامعات والكليات المتوسطة التي أعيدت فيها المعايير الاكاديمية، والتدريب المتقدم في العلوم والتكنولوجيا الى سابق عهدها بعد القفزة الكبرى للأمام، حيث ان بعض الجامعات كانت قد عادت بالفعل الى تدريس منهج رحب، يشمل الفلسفة وتاريخ العالم وعلم النفس والمنطق. بالنسبة الى الماويين احتوت هذه البرامج التعليمية على "أفكار عتيقة واجنبية، أفكار اقطاعية ورأسمالية وتنقيحيه"، وهي مناهج يقدمها العنصر التاسع العفن وهو "مصطلح لإهانة المفكرين".

بحلول نهاية عام 1966م، انتزعت من الارفف 4 ملايين نسخة من الكتب المقررة في مجالات اللغة الصينية والتاريخ والفلسفة والاقتصاد والتعليم والثقافة واللغات الأجنبية، اذ ان جميعها صنفت باعتبارها "عشبا سامة". وأغلقت الجامعات والمدارس المتوسطة في بكين أولا ثم في ارجاء الصين. في البداية، نهب الطلاب المكتبات والمدرسية ثم ازالوا آلاف الكتب من المكتبات العامة. وفي جامعة "شونغشان" بكانتون، احرق الحرس الأحمر أولا جميع كتب الكلاسيكيات الغربية، ثم احرقوا جميع النصوص التي لم تكن شيوعية او ماوية، وبعد ذلك احرقوا مبنى المكتبة نفسه. ودمر الحرس الأحمر اعدادا ضخمة من المجموعات الارشيفية ومكتبات بحثية بكاملها. فعلى سبيل المثال، في مدرسة "سوتشو" المتوسطة بإقليم كيانسو، دمرت المدرسة التي يمتد تاريخها الى 900 عام، كما دمر نحو 100 ألف مجلد، و80 ألف كتاب في ليلة واحدة. 

ترجح التقديرات ان مجموعات الكتب في المكتبات العامة على مستوى المقاطعات وما فوقه انخفضت بنسبة الثلث على الأرجح.أغلقت أبواب جميع المكتبات لفترات زمنية متباينة، وبعضها ظل مغلقا خلال سنوات الثورة الثقافية بأكملها، أي حوالي 10 سنوات.كما لم تنجوحضارة التبت وثقافتها وآثارها من التدمير الممنهج على أيدي الحرس الأحمر.

صاحب عصر التنوير وعي عام بأن تدمير الممتلكات والمؤسسات الثقافية عمل خطأ، نظرا الى ما فيه من عنف، ولأنه يمثل خسارة "ممتلكات مشتركة بين البشر، سواء تراثها من الماضي او استمرارها وثراؤها في الزمن الحاضر". في العام 1758م طرح كتاب "قانون الأمم" للمفكر القانوني "إمريك دو فاتل" مبدأ: أيا يكن السبب وراء تعرض بلد ما لدمار، يجب صون تلك الصروح التي تشعر المجتمع الإنساني بالفخر، أما فعل شيء خلاف ذلك فمعناه ان الفرد أعلن نفسه عدوا للإنسانية.  

المصدر: كتاب "إبادة الكتب" – عالم المعرفة – العدد 461 – يونيو 2018.  


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي