: آخر تحديث

تزييف الوعي القومي في الوطن العربي

86
79
61
مواضيع ذات صلة

كثيرة هي العلل التي تتعثر فيها الشعوب العربية، وقد لا أكون مخطئا إذا وضعت في رأس القائمة علة اجتماعية هي الأشد وطأة في جميع البلدان العربية، ألا وهي "علة تزييف الوعي القومي العربي". والمقصود بالوعي القومي هو إدراك الأمة العربية لقيمة الحياة والنضال من اجل تطويرها سياسيا واقتصاديا وعلميا وفكريا واجتماعيا، والايمان ان العالم العربي وحدة متماسكة، وان الشعوب العربية ذات مصير واحد، والطامعون في هذا العالم ينظرون الى اقطاره كلها نظرة واحدة، ويتعاملون معها حسب خطة واحدة قد تختلف في الأسلوب ولكنها لا تختلف في الغاية.

وتزييف الوعي القومي يعني تحريف التاريخ الوطني وشطب جزء كبير منه، وتشويه الحق وتزيين الباطل وقلب الحقائق، وعادة ما يتم تزييف الوعي القومي لصالح فرد او حزب او قومية او طائفة، ويقوم بهذه المهمة الوضيعة فئة من المفكرين والأدباء والشعراء وكتاب الأعمدة في الصحف مقابل المال والمنح والعطايا، يساعدهم على ذلك التطورات الهائلة التي حدثت على وسائل الاعلام والاتصالات ونجاحاتها في تشكيل الوعي العام وغسل العقول وتزييف الحقائق.

ومن الأمثلة الحية والقريبة الى الذاكرة العربية على تزييف الوعي القومي العربي تورط الكثير من المفكرين والأدباء والشعراء والكتاب العرب في الدفاع عن سياسة "صدام حسين" القائمة على البطش والإرهاب والقمع والتنكيل، وتوريط العراق في حروب إقليمية عبثية. وعلى الرغم من علمهم بكل هذه الحقائق فإنهم ذهبوا في تمجيده الى حد وصفه بأنه "صلاح الدين الأيوبي" وأطلقوا عليه لقب "حارس البوابة الشرقية"، والبطل القومي المدافع عن المشروع الحضاري للأمة العربية، وانه يمثل القوة العربية الصاعدة التي تهدد إسرائيل وتفتح الطريق لتحرير فلسطين، الى غير ذلك من الشعوذة التي ظلت تلوث عقل المواطن العربي لسنوات طويلة حتى انكشفت العورات.

فحارس البوابة الشرقية هو من قام بتحطيمها، والقوة العربية الصاعدة أخطأت الهدف (أي تحرير فلسطين)، وتوجهت بدلا من ذلك لغزو دولة عربية شقيقة ومجاورة، والمدافع عن المشروع الحضاري العربي ارجع هذا المشروع 100 سنة الى الوراء بسبب سوء تقديره للعواقب. رغم كل المآسي التي حلت بالعراق نتيجة القمع والتسلط والحروب العبثية، لا يزال بعض المهووسين بالأيديولوجيا الجامدة والمأجورين يعتقدون ويروجون لفكرة ان النظام العراقي وقتها تعرض لمؤامرة دولية بسبب تخطيه الخطوط الحمراء.

إن الاحداث التي مرت وتمر على العالم العربي والاخطار التي هددته وما زالت تهدده والمؤامرات التي حيكت ولا تزال تحاك ضده، هذه كلها لن ينجوا منها العالم العربي على أيدي من وزنوا بموازين الباطل او من تتحكم فيهم الأيديولوجيا أكثر من التزامهم بالموضوعية. ومن المؤسف حقا ان بعض من يطلق عليهم بالمفكرين والمثقفين العرب لا يزالون يساهمون بوعي او غير وعي في تزييف الوعي القومي العربي من خلال تفسير ظوهر واقعية تختلف جملة وتفصيلا عما حدث لمثلها في الماضي، والعراق إحدى هذه الظواهر. تاريخنا العربي قديمه وحديثه يزخر بالحديث عن كتابات وعاظ وخدام السلاطين التي تحسن القبيح وتقبح الحسن.

إذا أردنا ان نخرج من هذه الدائرة الضيقة والقاتلة فلا بد ان نأخذ العبرة مما جرى ولا يزال يجري، ونستوعب دروس تجارب صعبة استمرت لأكثر من أربعة عقود. إني لست من أنصاراستمرار التنديد بمواقف بعض المفكرين والمثقفين والكتاب من النظام العربي الحالي، ولكنني أتمنى ان يفتح هذا الملف بطول العالم العربي وعرضه، لكي نتحرى مواقف هؤلاء إزاء الطغيان وانتهاكات حقوق الانسان، لا لكي نحاكم أحدا، ولكن لنضع نهاية لهذا التحالف الشيطاني البائس بين الطغاة والمثقفين، الذي تدفع شعوبنا العربية ثمنا باهظا له، وحتى يصبح صوت المفكر والمثقف والكاتب هو صوت الضمير والحق والشعب بدلا من صوت السلطان.   


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في