: آخر تحديث

اقتراف المعرفة

85
90
75

في قصيدة الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث تقول (المرآة): أنا فضية ومحددة ولا أمتلك تصورات مسبقة، كل ما أراه أعكسه فورا كما هو، لست قاسية فقط صادقة.
تجربة الاشتباك مع المرآة تجربة غامضة و جليلة ولها أيضا أبعادها الرمزية لدى بعض الفلسفات الشرقية، حيث يعتقدون إن الكائن الذي تعكسه المرآة قرينك أو (آخرك) ومن الممكن أن يمتص طاقاتك الحيوية.
وهو أمر مقارب لما يحدث لمجتمعنا أمام مرآة العالم الافتراضي، وتحديدا وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك عندما أخذ المجتمع يكتشف ملامحه وتقاسيم وجهه تكوين أطرافه وأجزاء جسده هناك، عندها تفتت وانهار التصور الأحادي الذي يضمره المجتمع عن نفسه وشرخ ذلك الغشاء الجنيني الذي كان يتكور فيه ليبقيه بمعزل عن العالم.
في الماضي كانت الأشياء مرتبة فوق الأرفف بطريقة مريحة و واضحة وقريبة من التناول و وفق ما كانت عليه منذ الأزل، وكانت علاقتنا مع الآخر تندرج في أُطارها الحذر المستريب، العلاقة مع النساء تخضع لصورة مثالية عن العائلة وتراتبية السلطة وتوزيع الأدوار داخلها وينسحب هذا على علاقتنا مع الموسيقى والفنون..وسوى ذلك.
يعزز هذا ثقافة محافظة مجلببة بثوب عقدي، تحافظ على مكتسباتها عبر محاضن التعليم وأذرع الإعلام لتمرير خطاب أيدلوجي أحادي وحيد, لذا كان الجميع يتحدث بصيغة الجماعة والنحن !! لا نريد الابتعاث لأولادنا، أو القيادة لنسائنا, والسينما لعائلاتنا، أو الرياضة لبناتنا, فلم يكن هناك وقتها مرآة للمجتمع تجعله يكتشف مكونه الحقيقي وتفاوت شرائحه،وتعدد سماته, وبات أي اختلاف يعامل بأسلوب النبذ والنفي...
وحدثت المواجهة الكبرى بين المجتمع وذاته عندما أطل في مرآة وسائل التواصل، وعندما تحولت السماء فوقنا إلى عين هائلة عملاقة تتلصص علينا،وتتحدى أسوار الأسمنت والفواصل والسواتر و واجهات السمت الوقورة التي لطالما تفننا في رفعها, وانهمر السيل الرقمي عشوائيا مكتسحا الأرفف التي اصطفت فوقها الأشياء.
 
واكتشف المجتمع بأنه ليس تلك العائلة المحافظة التي يبتاع الأب خبز العشاء وينصت بتبتل لنشرة التاسعة في القناة الأولى، وإن جواب السؤال ليس فقط هو الذي يمدنا به المعلم المدرسي أو واعظ المسجد...بل لكل جواب له سؤال آخر يهدمه وينقضه.

في غور العالم الافتراضي أكتشف المجتمع أفرادا منه بأجنحة ليبرالية وأخرى مقصقصة من بقايا ناصرية وماركسية، وهناك اللا أدري وهناك العدمي وهناك البر والفاجر والمصلح والمحرض، وهناك الوطني وهناك الانفصالي، وعارض الأزياء, وعازفة العود، وطاهية أمام بوابة المناسبات...اكتشفنا ببساطة أننا مجتمع طبيعي يضج بالتنوع والاختلاف.

ولعل كل هذا الصخب والضجيج في وسائل التواصل وتلك النبرة الشوفينية العنصرية ضد الغرباء وضد تجنيس أبناء المواطنات وضد تجنيس المواليد، هي جزء من سؤال (النحن /الهم ) أمام مرآة العالم الافتراضي المرعبة، الذات الكبرى الجوفاء وهي تقترف المعرفة وسر النار، الأنا العشائرية المتورمة التي انشقت عن كم هائل من الأنوات كل منها يستقل بفردانية تميز المجتمعات في الدولة الحديثة.

في النهاية أعتقد إن هذا الضجيج إذا أُحسن الاستثمار فيه، فسيتمخض عن بذرة المجتمع المدني التعددي القائم فوق أرضية من التعايش والتسامح, في عملية إحلال واستبدال واعية تقودها النخب المثقفة، لأن ترك الساحة الآن للشعبوي المتطرف يأخذها لمنزلقات خطرة من العنصرية والشوفينية والنزعات الانفصالية التي تنعكس سلبا على وحدتنا، وحده المجتمع المدني المتعايش مع اختلافاته، يتكون من نسيج صلب لاتمزقه الصدمات أو التحديات.

مواجهتنا مع مرآة العالم الافتراضي أصبحت مواجهة تاريخية كبرى لمجتمع كان يلتف على يقنياته باستبسال، واكتشف فجأة إن (آخره) الذي يحدق فيه في المرأة لاينسجم مع الصورة النمطية التي أمضى حياته يتخيلها خلقت على هيئته.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في