: آخر تحديث

جليسي عيسى بن هشام يطلّ في الألفية الثالثة

96
96
84

جمعتني صدفةً جلسةٌ مع رجلٍ كبير السنّ في احد مقاهي بغداد أحدثت شرخاً كبيرا في عقلي وكأني ظفرت بشخصية عيسى بن هشام أيام كنّا نقرأ مقامات الهمذاني في فتوتنا وصبانا، هذا الرجل خبرَ الحياة؛ حلوَها ومرّها وعايش أنظمة عديدة وأدرك سوءاتها وأخطاءها ولم ينسَ شيئا من بعض حسناتها وكأنني ازددتُ علما وتجاربَ لا تعدلها سنوات من صحبتي مع الكتب وعقوداً من العمل الذي كنا نسميه نضالا وأدركت أخيرا انه كان هزءاً ومضيعة للعمر ووبالاً؛ ولا أغالي لو قلت انه لم يثمر تلك الثمار التي نبغيها وكأنها مرّت سدىً وأضاع من فتوتنا وشبابنا الكثير من الهدر والخيبة، وكأن لقائي بهذا الرجل اختزل كل ماعشته من تجارب وقراءات ومعايشة معظم الأنظمة التي مررت بها وقرأت عنها وأعجبت ببعضها وكرهت بعضها الآخر.
قال لي منذ اول وهلة تعارفنا ان كل الأنظمة السياسية والاقتصادية في عالمنا العربي وغير العربي وحتى في العالم المتحضّر نسبيا فشلت وعجزت عن إراحة الإنسان وتحقيق السعادة والهناء ودعة العيش والطمأنينة المرجوّة، وما الأحلام التي صاحبتنا منذ الفتوة والنضالات التي ضيّعت أعمارنا الاّ ان نعدها مجرد سدى وكأننا نحرث في بحر وندقّ الماء دقّا أملا كاذبا ليتحول الى ماء من نوع مميز وغير ما ألفنا.
صفّـقنا للأنظمة الاشتراكية وحلمنا بالشيوعية ورقصنا على وقع الانقلابات ضد رؤساء الحكم البائد انتظارا لحلم لم يأتِ إلاّ مرعبا وندمنا على مافعلنا من انزلاق كاد ان يطيح بنا ثم مرت السنون وحسبنا اننا نضجنا وبعدنا عن التحجّر الفكري وقلنا اننا لابد من ان نلين قليلا ونستفيد من تجارب الغرب المدنية وننعطف نحو الليبرالية ونقتنع بما تقدمه بعض سمات الرأسمالية لعلها تزرقنا بمصلٍ ناجع حتى لايقال عنا اننا مازلنا في حالة جمود عقائدي.
وبعد ان بلغ بنا اليأس مبلغا خطيرا ؛ رحنا ننبش في الإرث الديني والعقائدي عسى ان نجد هيكلا سياسيا نافعا فتشبثنا بالسلف وسميناه صالحا فإذا بالطالح يلاحقنا حين قمنا بتدوير هذا الإرث وخرجنا بإسلام سياسي ملوّن بالدماء والاحتراب نافثا الكثير من رياح الكراهية الخانقة للأنفاس.
كل هذه الانظمة لم تأتِ أكلها ؛ فلم تعد الا وسيلة واحدة نلجأ اليها وهي اليوتوبيا فزاد مخيالنا وظللنا نسكر ونطرب الى مجتمع خال تماما من المنغّصات والأهوال والكوارث وخلّيناه يلعب بأذهاننا ويمرح في عقولنا بعد يأسٍ مرير مما نلقاه على أرض الواقع خلاصا من الديستوبيا البشعة التي ترافق حياتنا في اية انظمة عشناها وعرفناها.
ومن أطرف ما سمعت عن جليسي العاقل المليء بالحكمة وسداد الرأي انه قال لي مازحاً قبل ان يودّعني:
ياصديقي اذا كان لديك بقرتان تدرّان حليبا وتعيش تحت ظلّ حكومة اشتراكية فاعلم ان إحدى بقرتيك ستغتصب منك وتوهب الى جارك وتُبقي على واحدة لديك كي تتساوى أنت وهو في الأجر والتحصيل وتقلّ الى حدّ كبير الفوارق الطبقية بينك وبين جارك وأخيك المواطن.
ولو كنت رازحا تحت نظام شيوعي – لاسامح الله – فسوف يتم أخذ البقرتين منك ولم تنل الاّ حاجتك من كؤوس الحليب قد يسدّ رمقك ورمق أسرتك.
ولو كنت مواطنا ترزح تحت حكم النظام الواحد أو تحت وصاية دكتاتور متسلّط فاعلم ان البقرتين ستذهبان الى حضائر الدولة وماعليك إلاّ ان تقف في الطابور وتنتظر دورك لشراء الحليب وتدفع ثمنه من جيبك الخاص.
وإذا حالفك الحظّ واستقررت في دولة رأسمالية فسوف تبقى تمتلك البقرتين في حضيرتك وتبيع الحليب بالسعر المتعارف عليه في السوق وتحتفظ لنفسك بما يكفي ليغطي احتياجاتك لكنك سوف تفاجأ بان الدولة قد استحوذت على كل ما جنيتَه من مال ليعود الى الدولة بشكل ضرائب قد تساوي او يفوق ثمن البقرتين وحليبهما وسوف تدرك ان جيبك سيكون خالي الوفاض، وكل جهدك وتربيتك ورعايتك لما تمتلك سيضيع في غمضة عين.
اما لو عشت في ما يسمى بالأنظمة الفوضوية الغريبة الأطوار ولا تعرف هويتها ومنحاها ويختلط عليك الحابل بالنابل والعالي بالسافل ولا تدرك رأسها من رجليها كما نعيش معظمنا -- ومنهم أنا -- فسوف تتوجه الأبصار إليك وتؤخذ بقرتاك منك عنوةً وترى الآخرين يحلبونهما أمام أنظارك وأنت ساكت خوفاً دون ان تنالَ لترا واحدا، وكل ماعليك ان توّلي الأدبار هاربا خوفا من يحلبوك أنت أيضا.

[email protected]


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في