: آخر تحديث

الفرادة التي قادت إلى ولادة الكون المرئي بعملية الانفجار العظيم

338
426
365

في تلك النقطة الغامضة الفريدة من نوعها التي تكاثفت فيها كل مكونات الوجود المادي، حدثت تقلبات أو تأرجحات وخلخلات كمومية أو كوانتية fluctuations quantiques أدت إلى حصول الانفجار العظيم الذي اعتبر بداية لكل شيء موجود اليوم في الكون المرئي، ولكن ماذا بعد؟ ما يزال علم الأكوان الكوسمولوجيا يواجه صعوبات جمة وتحديات وألغاز وصعوبات وأسرار عصية. المادة السوداء أو المظلمة والطاقة السوداء أو المعتمة أو الداكنة هي من المشاكل الكوسمولوجية الجوهرية والأساسية التي تبحث عن إجابات وتفسيرات علمية. وكذلك هو حال اللاتماثل واللاتناظر dissymétrie الذي قد اختار التحيز للمادة على حساب نظيرتها وتوأمها المادة المضادة وحطم حالة التماثل والتناظر التام أو الفائق super symétrie. لقد اتضح ذلك بجلاء عند التعمق في دراسة وتحليل الخلفية الإشعاعية الكونية الميكروية rayonnement cosmique. حاولت عدة نظريات كونية كوسمولوجية، أعقبت نظرية الانفجار العظيم لتكملها، أن تسد النواقص والثغرات في هذه الأخيرة، من بينها نظرية الثقالة الكمومية أو الكوانتية التعاقبية، الدائرية أو الحلقية La Gravitation Quantique à Boucles، التي عملت على الاستفادة من دروس نظرية آينشتين النسبية ومعادلاتها الرياضية للذهاب إلى أبعد ما يمكن من فرضيات علمية بديلة أو مكملة. وعلى نحو خاص قلب وجوهر هذه النظرية المتمثل بمقولة الاستقرار واللاتنوع أو الثبات الجوهري L’invariance de Fond، أي حقيقة عدم وجود أية بنية أو هيكلية جامدة في العالم فكل شيء متحرك ونسبي وعلائقي relationnel مرتبط ببعضه البعض، وفي ذات الوقت، تحاول هذه النظرية أو تبحث عن وسيلة لإدخال ودمج المبادئ الأكثر جوهرية للميكانيك الكمومي أو الكوانتي Mécanique Quantique، وعلى الأخص إن التسلسل والنظام أو السياق الذي نتبعه في الحسابات والقياسات هو أمر مهم للغاية. فقبل خمسة وعشرون عاماً نجح العالم آبهي آشتيكار Abhay Ashtekar، وهو اليوم مدير معهد الجاذبية أو الثقالة والكون في جامعة الدولة في بنسلفانيا، في إعادة صياغة النسبية العامة لآينشتين بطريقة تسمح لها أو تجعلها ملائمة وقابلة للتوافق مع الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، بعد تجارب وعمل مضني استغرق وقتاً طويلاً وصعوبات جمة وعقبات كأداء ونجح بمعية علماء آخرين معه مثل العالم الإيطالي كارلو روفيللي Carlo Rovelli، ونجح في وضع أسس هذه النظرية المعروفة باسم " الثقالة الكمومية أو الكوانتية التعاقبية، الدائرية أو الحلقية La Gravitation Quantique à Boucles" والتي يشتغل عليها اليوم أكثر من مائة عالم وباحث علمي. لم تنته أو تكتمل هذه النظرية بعد ولم تتوج بانتصار حاسم، لكنها اثبتت فعاليتها وأناقتها واتساقها cohérence. وكانت الطرق والأساليب المتنوعة لصياغتها قد قادت كما يبدو إلى نفس النموذج paradigme مما يعزز ويرسخ مقبولية وصلاحية هذا البناء أو الصرح النظري الكوسمولوجي المعاصر.
ففي نظرية الثقالة الكمومية الحلقية لا يكون الزمكان نسيجاً متصلاً بل ينبغي تخيله على هيئة شبكة هائلة التعقيد والتشابك. مثلما هو حال المادة المكونة من عدد مهول من الذرات وجسيماتها الأولية مادون الذرية، فالفضاء في هذه الحالة يكون مؤلف من حبيبات أولية، أي حبيبي. وبما أن المجموع الكلي هو كوانتي أو كمومي فإن تطوره يجب أن يتم على نحو إحتمالي أو بصيغ إحتمالية termes probabilistes. وإذا كان هذا النموذج، الذي يصفه المتخصصون بـ الرغوة ذات الدورانات المغزلية mousse spins، صحيحاً، فسوف يسجل ثورة عارمة في عالم الفيزياء الكوسمولوجية وفيزياء الجسيمات والفيزياء الكمومية والفيزياء النظرية. فهذا النموذج النظري لا يصف الحركة والتكوين للأشياء الموجودة داخل المكان والزمان بل يصف الزمكان نفسه، حينها يبدو الكون المرئي كما لو إنه عبارة عن حقول كوانتية أو كمومية في حالة تداخل وتفاعل وتشابك interaction مستمر ولن تعد هناك أية بنية أو هيكيلية فائقة métastructure تنتشر فيها تلك الحقول الكمومية. واليوم هناك تفهم أكبر لديناميكية وحيوية لهذا الزمكان الكوانتي أو الكمومي الحبيبي، وذلك بفضل عدة مقاربات علمية مكملة. وتبدو النظرية على وشك النجاح في إحداث التصالح بين العناصر المؤسسة للنسبية الآينتشتينية من جهة والعناصر المؤسسة للميكانيك الكمومي أو الكونتي من جهة أخرى. وعند تطبيقها على الثقوب السوداء أعطت معنى مفهوماً لهذا اللغز الأنثروبي الغامض أو الكون المرئي الغامض mystérieuse entropie: فالحالات الكمومية أو الكوانتية لأفق الحدث للثقب الأسود تخزن المعلومة التي بدت وكأنها ضاعت إلى الأبد. ولقد أحدث هذا الاستنتاج جدلاً واسعاً ونقاشاً حاداً في الأوساط العلمية الفيزيائية، خاصة في معبد الفيزياء النظرية في كندا وهو معهد بيرميتر perimeter institute أو معهد المحيط حيث ادعى عالم فيزياء شاب هناك أنه وجد بأن الأنثروبي entropie لا تعتمد على عامل حر أو معلمة حرة paramètre libre، أو بعبارة أخرى على عامل مجهول في النظرية، ويسعى لتطوير النظرية بسرعة وعلى مراحل سوف تشهد قفزات مدهشة في السنوات القليلة القادمة، بعد ركود ونكوص أحياناً هيمن على الفيزياء النظرية في الآونة الأخيرة، هذا ما سوف يقودنا إلى تمثل ثوري جديد وتصور جريء للعالم représentation du monde.
أحد نجاحات نظرية الثقالة الكمومية الحلقية هو إمكانية تطبيقها في حقل علم الأكوان الكوسمولوجيا، ولقد اثبت العالم الألماني مارتن بوجوالد Martin Bojowald الذي يعمل في الولايات المتحدة الأمريكية في بداية سنوات الألفين بأن فرادة البغ بانغ " الانفجار العظيم" اختفت وهذه نتيجة جوهرية، حيث تم حل التناقض الأساسي للكوسمولوجيا المعاصرة l'aporie. كما كان العلماء المقربون منه يأملون ذلك، ولكن ليس الأمر بهذه البساطة أو البديهية الظاهرة فأكممة أو تكميم la quantification، وتحديد مقادير معادلات آينشتين بطريقة الحلقات الكمومية سوف يؤدي إلى تسطيح أو تنعيم الاختلافات الأصلية لا أكثر من ذلك كما يعتقد المناوئون. فالقيم الفيزيائية لم تعد تتجه نحو اللانهاية ولم تعد النظرية باثولوجية أو مرضية pathologique. ولكن لو اختفت نظرية الانفجار العظيم أو الكبير البغ بانغ فبماذا سوف تستبدل؟ هل بنظرية القفزة الكبرى أو الإنتعاش الكبير grand rebond أو بنظرية الإنكماش الكبير أو التقلص والارتداد الكبير Big Bounce؟ بعبارة أخرى لن يعد هناك للكون المرئي أصل ولا بداية، وبالتالي فهو في مثل هذه النظرية موجود منذ الأزل وباقي إلى الأبد وإن ما أسميناه بالانفجار الكبير لا يمثل سوى عنق الزجاجة goulet d'étranglement لحلقوم، وهو ليس أكثر من ممر لحلق ثوري gorge rabelaisienne أو حنجرة كونية تتوسع بانتظار الانكماش والتقلص أو الارتداد الكبير، وهكذا دواليك في حالة تكرار على الدوام تسبقها حالة من لانتفاخ والتضخم المفاجيء في المرحلة المعروفة بمرحلة التوسع والتمدد الكوني expansion التي نتواجد فيها حالياً، وربما تكررت هذه الحالة مرات لامتناهية منذ عدد لامتناهي من السنين استمر مليارات المليارات المليارات من السنين ما يقودنا لصيغة الكون التعاقبي الحلقي المتكرر منذ الأزل إلى الأبد، بلا بداية ولا نهاية ما يذكرنا بالنظريات الكوسمولوجية الغارقة في القدم والمشوبة بالكثير من الخرافات والأساطير، فصورة الكون وأصله وبدايته المعروفة حالياً سوف تنهار وتجتز. ولو صحت هذه الفرضية فلم تعد مسألة الأصل والبداية مطروحة وسوف نقتصد ونتخلص من الكثير من المفاهيم الميتافيزيقية المرتبطة بموضوعة الأصل والبداية والخلق.
كانت النظرية تعتبر مجرد مضاربات وتكهنات رياضية spéculations mathématiques غير قابلة للتجريب والاختبار وغير خاضعة للحسابات والقياس، ولكن قد يكون هناك اثر باقي لحدث الانكماش والارتداد الكبير كما هو حال الانفجار الكبير من خلال إشعاع الخلفية الكونية ألأحفورية الميكروية، مما يفتح الطريق أمام محاولات العثور عليه وتوفير الدليل على صحة نظرية الثقالة الكمومية الحلقية. لقد افترض العلماء وهم مصيبون في ذلك، أن هناك مرحلة بعد الانفجار العظيم أو الكبير حدثت وسميت بالتضخم الهائل المفاجيء والفوري، الذي أدى إلى توسع هائل لحجم الكون. وهذا الافتراض أساسي وجوهري وضروري لفهم لماذا يبدو الكون المرئي متجانساً وقليل الانحناء أو التحدب ويولد تقلبات اعتبرت السبب في البنيات أو الهيكليات الظاهرة للكون المرئي، ولقد اضطر العلماء إلى إضافة هذه الفرضية التضخمية للنموذج الكوني الآينشتيني ولو بصورة مصطنعة وقسرية وتتطلب توفر ظروف مسبقة شديدة الخصوصية، أي حالة فيزيائية معينة في لحظة ولادة أو حصول التضخم والحال إن نظرية الثقالة الكمومية الحلقية تفسر وتحل هذا الإشكال حيث اعتبر التضخم الفوري المفاجيء كنتيجة حتمية لهذا النموذج الكوسمولوجي النظري أي الثقالة الكوانتية أو الكمومية الدائرية أو الحلقية المتعاقبة. وفي هذه الحالة يجب أن يكون هناك فهم وإدراك لمعنى التغيير في القيمة القياسية التي توصل إليها العلماء changement de la signature de la métrique، وهي نتيجة سبق للعالم البريطاني الفذ ستيفن هوكينغ أن اقترحها ومعه علماء آخرين قبل سنوات طويلة، وثبتت صحتها اليوم ما يعني أن الزمن أصبح " خيالياً imaginaire عند اقترابه من الانكماش أو التقهقر أو الارتداد الكبير Big Bounce، وسوف يؤثر ذلك على الكثير من مفاهيم تطور الكون وديناميكيته وحركيته.
نظرية الأوتار:
هناك طريق آخر ممكن من الناحية النظرية للخروج من مأزق توحيد نظريتي النسبية في اللامتناهي في الكبر والكمومية في اللامتناهي في الصغر، ألا وهو نظرية الأوتار théorie des cordes التي استكملت مؤخراً بنظرية الأوتار الفائقة théorie des supercordes، وهي جزء من نظرية كل شيء أو النظرية أم théorie M، التي تعتبر المدخل للنظرية الشاملة والجامعة الكلية التي يفترض أنها ستقدم الحلول والأجوبة المنشودة. اقترحت نظرية الأوتار الفائقة أن المكونات الجوهرية للكون المادي المرئي ليست الجسيمات الأولية كالكواركات والنيوترونات والإلكترونات الخ،، بل أجسام مطاطة لامتناهية في الصغر هي عبارة عن أوتار كمومية أو كوانتية يشبه بعضها الغرافيتونات gravitons، وهي الجسيمات الأولية للثقالة أو الجاذبية، وهذا يعني أن نظرية الأوتار تتنبأ على نحو آلي أتوماتيكي بالجاذبية أو الثقالة التي هي العمود الفقري للنسبية الآينشتينية. ومن هنا يمكننا أن نفترض وجود إمكانية لتوحيد المكونات الأولية للمادة المعروفة والتي أعيد تفسيرها على أنها عدة ترددات مختلفة ومتنوعة ممكنة لكل نوع من أنواع الأوتار الجوهرية الأولية على غرار وتر آلة الكمان أو الآلات الموسيقية الوترية الأخرى حيث بالإمكان إنتاج مختلف النوتات اللحنية الموسيقية الصوتية حسب موضع الإصبع على الآلة وعلى الأوتار ودرجة الضغط على الوتر.
تقدم هذه النظرية نفسها على أنها نظرية للتوحيد ونظرية للثقالة الكمومية أو الكوانتية، في آن واحد، وهذا ليس بالأمر البديهي لأنها تتعامل مع مسألتين متعارضتين ومتنافرتين ومتفككتين وهي لا تعتمد على عامل أو معلم حر واحد ما يجعلها في غاية الأناقة والجمال رغم تعقيدها. فالأوتار هي أساس الفيزياء المعاصرة حسب أنصار وأعمدة هذه النظرية سواء اندمجت أو انفلقت. تجدر الإشارة إلى أن هذه النظرية تضفي على الفضاء أو المكان تسعة أو عشرة أبعاد مكانية وبعد زماني واحد، لكننا لا نعرف ولا نتعامل سوى مع ثلاثة أبعاد مكانية هي الطول والعرض والارتفاع، وبالتالي يتسرع البعض في اعتبار النظرية زائفة وغير قابلة للتحقيق، وذلك لأنهم عاجزون عن تصور أو تخيل ستة أبعاد أخرى للمكان غير مرئية، خفية منطوية على نفسها وغاية في الصغر يستحيل مشاهدتها أو كشفها.
أما طرق إخفاء وطوي compactifier الأبعاد المكانية الستة الإضافية فقد كانت عديدة لا تعد ولا تحصى وقد تجاوزت العشرة أس خمسمائة الــ 10500 من القوانين الفيزيائية الممكنة. في عدد من الأكوان الإضافية المتوازية أو المتداخلة أو المتجاورة مما يدفع لإعادة التفكير والتأمل في طبيعة العلم نفسه وإمكانياته الخارقة.
كما تشرح نظرية الأوتار الفائقة أنثروبيا الثقوب السوداء entropie des trous noirs، وبطريقة حتى أفضل من نظرية الثقالة الكمومية الحلقية لأنها لا تتطلب تعديل أي عامل paramètre أو معلمة من أجل الحصول على النتيجة المطلوبة أو المرجوة، إلا في حالة الثقوب السوداء ذات الخصوصية المتميزة والفريدة والنادرة جداً، ولكن من الصعب تطبيق نظرية الأوتار الفائقة على علم الأكوان الكوسمولوجيا، لصعوبة الخروج بتكهنات وتنبؤات دقيقة في الوقت الحاضر، لكن ذلك لا يقلل من أهمية وصلاحية النظرية وجماليتها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في