: آخر تحديث

لماذا يريدون الله؟

81
93
80

في شهر حزيران/يونيو من عام 1979 طلب البابا يوحنا بولس الثاني من الحكومة البولندية السماح له بزيارة وطنه وشعبه في بولندا. وقتها كانت أوروبا منقسمة الى شطرين: أوروبا الحرَّة وأوروبا غير الحرَّة. شطر يضمُّ الدول الديموقراطية في أوروبا الغربية، والشطر الآخر يضمُّ الكتلة السوفياتية بزعامة روسيا الشيوعيَّة. وكانت بولندا واقعة تحت الهيمنة السوفياتية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
شكَّل طلب البابا زيارة موطنه حرجاً كبيراً للسلطات البولندية آنذاك: إذا رفضت طلبه كان ذلك علامة ضعف، وإذا وجَّهوا دعوة له للزيارة، فإنهم يجازفون بحدوث انتفاضة شعبية ضد النظام القائم، خشية أن تؤدي سلطته المعنوية الى استثارة عواطف الشعب واستنهاضه. ومثل هذه الانتفاضة سوف تؤدي الى التدخل السوفياتي بحملة عسكرية لقمعها. أخيراً قرَّروا توجيه الدعوة اليه وفي حسابهم أنه رجل حصيف ومحنَّك، وبالتالي فإنه لن يلعب بالنار، بل يأتي ويذهب بهدوء. قبل البابا شروطهم وأعلن أن زيارته هي زيارة حج ليس لها دوافع سياسية.
عملت الحكومة البولندية قصارى جهدها لمنع احتشاد الجماهير. أبقيت طرقات سير البابا مكتومة، أو جرى تغييرها خفيةً. وسائل الإعلام الرسمية شدَّدت الرقابة فلم تنشر من وقائع الزيارة، مما قيل فيها أو جرى، إلاَّ لماماً. أوصي أساتذة المدارس الثانوية أن يُبلغوا تلامذتهم بأن الزائر رجل خبيث شرِّير في لباس برَّاق من ذهب، وأنه عدوٌّ للدولة.
وصفت بيغي نونان، كاتبة خطابات الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، والمعلِّقة السياسية في جريدة «وول ستريت جورنال» الواسعة النفوذ، زيارة البابا تلك بقولها: «يوم الثاني من حزيران/يونيو أقام البابا يوحنا بولس الثاني قدَّاساً بساحة النصر في وسط مدينة وارسو القديمة. وفي منتصف القدَّاس راح بعض المؤمنين يهتفون «نريد الله، نريد الله!». وقف البابا عندئذ متسائلاً: ما هو أعظم عمل لله؟ إنه الإنسان. من خلَّص الإنسان؟ يسوع المسيح. ليعلن بعد ذلك: «إنه من المستحيل إبقاء المسيح خارج تاريخ الإنسان في أي ركن من أركان المعمورة، ولا في أي خط من خطوط الطول أو العرض... لأن استبعاد المسيح من تاريخ الإنسان هو عملٌ ضد الإنسان. بل إن الذين يعارضون المسيح لا مفرَّ لهم من العيش في الإطار المسيحي للتاريخ». ثمَّ قال مستطرداً : « ليس المسيح هو ماضي بولندا فقط إنه مستقبلها أيضاً». فهدر المحتشدون في الساحة هاتفين: «نريد الله، نريد الله».
لم يكن البابا في كلامه هذا يخاطب المؤمنين فقط، إنما كان يوجِّه خطابه أيضاً الى حكَّام بولندا والمسؤولين في دولة ملحدة. هو لم يكن يتحدَّاهم بصورة ظاهرة، لأنه لم ينطق بكلام سياسي بل بكلام روحاني. لكن فحوى كلامه هذا يقول إن بولندا هي الإيمان بالمسيح، وإن الإيمان بالمسيح هو بولندا، وإن الشيوعية مهما فعلت لن تستطيع تغيير هذه الحقيقة.
فكأنه كان يقول للبولنديين إن الله «حقيقي»، وإنه يرى أوروبا واحدة موحَّدة، لا «شرقية» ولا «غربية»، يفصلهما جدار أو خندق في التراب. وبذلك، كما كتبت سابقاً، «قسم المقسِّمين لنظرة الله الى التاريخ».
في اليوم التالي لزيارته تكلم خارج الكاتدرائية في مدينة غنيزنو الصغيرة، وأيضاً حول شؤون روحية فقط. لم يذكر شيئاً عن الحكومات، أو الاتحادات، أو النضال من أجل الحريات السياسية. قال فقط: «ألا يريد المسيح، ألا يطلب الروح القدس من البابا، وهو بولندي، وهو إنسان سلافي، الآن الآن، أن ينادي بالعلن بالوحدة الروحية لأوروبا المسيحية؟...» واجاب عن هذا السؤال بقوله: «نعم ، نعم المسيح يريد ذلك». 
في تينك المناسبتين كان يوحي للبولنديين بأن ينظروا الى أوضاعهم نظرة مختلفة. أوحى لهم بأن لا ينظروا الى أوروبا على أنها مقسومة الى «حرَّة وغير حرَّة»، بل عليهم أن ينظروا الى اكتمالها، هذا الاكتمال الذي لا تستطيع حتى الشيوعية إلغاءه.
في نهاية زيارته، أقام البابا قدَّاساً في الهواء الطلق على أرض ترابية واسعة خارج مدينة كراكوف، يدعى «حقل بلوني». حضر ذلك القدَّاس نحو مليوني شخص، فكان أضخم تجمُّع بشري عرفته بولندا في تاريخها. وقد امتنعت السلطات البولندية عن الإعلان عنه أو تغطيته، لكن أخباره انتشرت بين الناس انتشار النار في الهشيم. في ذلك الحشد قال يوحنا بولس للبولنديين: «إنه بالإمكان رفض المسيح. البشر أحرار ويمكنهم أن يقولوا «لا» لأي شيء. لكن هل يستطيعون أن يقولوا «لا» للذي عشنا معه أكثر من ألف سنة؟ الذي شكَّل أساس هويتنا، وبقي أساسها الى اليوم؟
كان يقول للشيوعيين الحاكمين: «لن تربحوا». وكان كأنه يقول للبولنديين بأن يشدِّدوا في مقاومتهم للشيوعية. 
قال لهم: «إنكم تحتاجون الى هذه القوة اليوم أكثر من أي عصر مضى. فالحب أقوى من الموت. أطلبوا القوة الروحية حيث وجدتها أجيال وأجيال من آبائنا وأمهاتنا». كان ذلك بمثابة توكيد للروح البولندية، والذين سمعوه عادوا الى بيوتهم ينظرون الى أنفسهم نظرة مختلفة: هم ليسوا ضحايا التاريخ، إنهم مناضلون ضمن حقيقة جديدة وواعدة. 
الذين في بيوتهم شاهدوا التلفزيون الحكومي لم تُعرض عليهم مشاهد الجماهير المحتشدة، ولا هتافاتهم، بل بضعة صور للبابا وكلمات مقتطعة من خطاباته. أغضبتهم تلك الكذبة في الإعلام الملفَّق. فكانت تلك الغضبة ضربة أخرى لشرعية الحكومة. 
بعد سنوات من تلك الزيارة التقت بيغي نونان ليخ فاليسا، الرئيس السابق لاتحاد العمَّال البولنديين (الذي انتُخب تالياً رئيساً للجمهورية)، وسألته عن تأثير زيارة البابا تلك، فأجابها: «كانت بولندا تعرف دائماً أنه من غير الممكن إصلاح الشيوعية، لكنه يمكن إنزال الهزيمة بها. وكنا نعرف أنها سوف تنهار في اللحظة التي لامس البابا أساساتها».
بعد زيارة البابا بات الشعب البولندي أكثر جرأة في تحدِّيه للنظام الشيوعي. بدأوا يعبِّئون أنفسهم، وراحت روسيا تستعد لإرسال قواتها الى بولندا لقمع الانتفاضة السياسية. 
مرَّة سألت الراحل زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس الأميركي جيمي كارتر، وهو من أصول بولندية، من هم القادة الذي أحبهم وأُعجب بهم أكثر من غيرهم، فأجاب: الرئيس أنور السادات في مصر، والرئيس الصيني دينغ هسياو بينغ، والرئيس الفرنسي جيسكار ديستان. ثم أردف قائلاً: «بالنسبة الي، البابا يوحنا بولس الثاني هو الأول».وكان قد سبق لبريجنسكي أن كتب في موضوع البابا قائلاً: «في سياق مقابلات وأحاديث عديدة لي معه، أثار إعجابي كثيراً سواء لجهة صلابة عقيدته، أو لجهة إدراكه السياسي الاستثنائي».
فعندما بدأت الاستعدادات الروسية لاجتياح بولندا، اتصل بريجنسكي بالبابا وغيره من قادة العالم آنذاك، وفي طليعتهم مارغريت ثاتشر في لندن، وجيسكار ديستان في باريس، والقيادة الصينية وغيرهم، في رسالة الى الروس مؤداها: «إذا تدخَّلتم في بولندا، فإن ذلك سوف تكون له عواقب وخيمة».
 ما أضفى صدقية على التهديد الأميركي وحمل القيادة السوفياتية على التخلي عن خطتها للتدخل في بولندا، هو رد واشنطن على الاجتياح السوفياتي لإفغانستان من خلال دعم المجاهدين الإسلاميين بالمال والسلاح. وكان في تقدير بريجنسكي أن الرد الأميركي في أفغانستان من شأنه أن يحمل القيادة السوفياتية على إعادة النظر في استعداداتها لاجتياح بولندا. 
خلاصة القول هي أن انهيار الاتحاد السوفياتي والدول الأوروبية الدائرة في فلكه، إنما بدأ بزيارة البابا الى بولندا. فقد كانت رسالة البابا قويَّة الى درجة أنها جرَّأت الشعب البولندي على الوقوف في وجه الديكتاتورية السوفياتية. وفحوى تلك الرسالة هي المقاومة السلمية والروحية من غير اللجوء الى العنف إطلاقاً. 
لم تسفك دماء، لم يتعرض دين  للتشكيك. بطروحات السلام تصل الشعوب الى حقوقها وتفرض ارادتها .
-————
هذا المقال تنشره "ايلاف" بالاتفاق مع " الديبلوماسي" وهو تقرير شهري يصدره من لندن الصحافي اللبناني ريمون عطاالله - عدد أيلول / سبتمبر الجاري.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في