: آخر تحديث

طبيعة الدولة وبنيتها

99
91
99

ما دفع بي مرة أخرى إلى الكتابة حول طبيعة وبنية الدولة هو أن عدداً من الكتاب والمعلقين أدعياء الماركسية بشكل خاص كتبوا مؤخراً في أحد المواقع الألكترونية يطالبون بإقامة دولة تقيم العدل بين الناس جاهلين وليسوا متجاهلين موضوعة أساسية من موضوعات الماركسية والتي توقف عندها لينين طويلاً فكان أن قال.. ما من مفهوم لحق به تزوير وتشويه كمفهوم الدولة.

بنية الدولة في الجوهر تتشكل وفقاً لوظيفتها، فالدولة خلقت أصلاً لتعتدي على القسم الأكبر من الشعب من أجل تطويعه لنظام الإنتاج القائم وهو أصلاً ضد النظام بحكم تقسيم العمل والصراع الطبقي ؛ ولذلك تنص مختلف دساتير الدول على أن قوى القمع بكل أجناسها من جيش وشرطة وسلاح وسجون ومحاكم وقوانين هي حكراً على الدولة. الدولة تحتكر أدوات القمع لتستخدمها بالطبع وليس لتتفرج عليها، تستخدمها في قمع كل من يعارض ويعمل ضد النظام القائم. المجتمع وفقاً لعلاقات الإنتاج القائمة فيه والتراتب الطبقي يشكل دولته لتحافظ على الأوضاع القائمة وليس لتغييرها أو تطويرها ولذلك فإن وظيفة الدولة الأولى منع التطور والتغيير وخاصة بالنسبة لعلاقات الإنتاج.

الدولة "الديموقراطية" كانت تتمثل في عهود العبودية في أثينا وفي روما بمجلس الشيوخ (Senate Council) الذي كان يتشكل من ولاة الدولة ويمارس سلطاته بالحفاظ على التمايز الطبقي بين طبقة الشيوخ الأرستقراطية وطبقة الأحرار الذين ينتجون مسهّلات النظام (facilities) مثل أدوات البستنة وأدوات القمع، وطبقة العبيد وهي قوى الإنتاج التي يمتلكها الشيوخ والطبقة العليا الأرستقراطية. تغير النظام العبودي وحل محله النظام الاقطاعي، الزراعة الحقلية (Agriculture) بدل البستنة (Horticulure) فحل محل مالكي العبيد مالكو الإقطاعات الكبيرة من الأراضي وحلت محل طبقة العبيد طبقة الأقنان التي لا تختلف عن طبقة العبيد على صعيد الحقوق سوى أن الاقطاعي يمتلك عمل القن لكنه لا يمتلك جسمه ليبيعه كما كان السيد يبيع عبيده. في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بدأ الأقنان يهربون من الإقطاعيات بسبب ما وقع عليهم من جور وظلم ويلجؤون إلى مراكز حرفية يتعلمون فيها حرفة يعتاشون منها. تعاظمت تلك المراكز وقد أصبحت مدنا بورجوازية في الأراضي المحايدة بين الاقطاعيات المحيطة وسوّرت بأسوار عالية كيلا تقتحمها قوات الإقطاعيين لاسترداد الأقنان الهاربين واليوم كل المدن الأوروبية التي ينتهي اسمها بلفظ (بورغ) هي أصلاً تلك المراكز. تطورت تلك المراكز البورجوازية من حيث الإنتاج وقوى الإنتاج وكانت الإرهاصات الأولى للنظام الرأسمالي. الإنتقال إلى النظام الرأسمالي اقتضى فيما اقتضى تحطيم البورجوازية الصغيرة (الصناعات اليدوية المحدودة الإنتاج – المانيفاكتورة) التي أقامت المدن البورجوازية وكانت برأي ماركس أكبر جريمة تقترف بحق البشرية، ولقاء ذلك تعهد بقيام البروليتاريا بمحو الطبقة الرأسمالية والطبقة البورجوازية الوضيعة لكن ستبقى دولة دكتاتورية البروليتاريا مسؤولة عن مصائر الناس في هاتين الطبقتين وليست كدولة الرأسماليين التي حطمت طبقة البورجوازية الصغيرة الواسعة وتركت ناسها للفناء. وتأكيداً هنا على ما ذهب إليه ماركس في هذا المعنى فقد قامت دولة دكتاتورية البروليتاريا السوفياتية بتحطيم طبقة الفلاحين الأغنياء في عامي 1931 و 32 وذلك عن طريق انتزاع الملكيات الكبيرة منهم وترحيلهم إلى مراكز العمل القسري في سيبيريا بعد أن قام هؤلاء الفلاحون بثورة مضادة هدفت إلى هزيمة الثورة الاشتراكية بعد أن بذل ملايين السوفياتيين أرواحهم ودماءهم من أجل انتصارها على الأعداء الداخليين في الحرب الأهلية 1918 – 1919 وعلى أعدائها الخارجيين في حروب التدخل 1919 – 1921. في سيبيريا اشتغل أولئك الفلاحون وعائلاتهم وأكلوا خبزهم بعرق جبينهم وبنوا مدناً كبيرة هي اليوم أفضل المدن السوفياتية والروسية.
لاحظ ماركس أن النظام الرأسمالي هو أكثر الأنظمة التي عرفتهاالبشرية في تاريخها الطويل استغلالاً للإنسان. ففي النظام العبودي كما في النظام الإقطاعي كان هناك حيّز واسع لطبقة وسطى هي طبقة الأحرار وهم الذين ينتجون فردياً مسهلات النظام القائم بعكس النظام الرأسمالي الذي بنى شرعيته على تحطيم تلك الطبقة الوسطى ودفعها إلى الموت والفناء طالما أنها مهنية وترفض أن تتحول إلى بروليتاريا مأجورة.
الدولة الإشتراكية، دولة دكتاتورية البروليتاريا، تمارس القمع أيضاً وبصورة أعم وأشمل من نظيراتها السابقة حيث رتّب التاريخ عليها محو كل الطبقات للوصول إلى المجتمع اللاطبقي حيث يستكمل الإنسان كامل إنسانيته ولا يعود بحاجة للحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية. ولما كان الإنسان قد وجد منذ فجر التاريخ أن حرفته هي سبب عيشه فلن يتخلى عن تقسيم العمل والدفاع عن حرفته بكل ما أوتي من قوة وهو ما يستلزم من الدولة الاشتراكية مضاعفة القمع. فإذا كان المجتمع العبودي يقوم على تعايش ثلاث طبقات ومثله المجتمع الإقطاعي، ويقوم المجتمع الرأسمالي على طبقتين بعد إفناء الطبقة الوسطى، طبقة البورجوازية الصغيرة، فإن المجتمع الشيوعي لا يقوم أبدا مع أي تواجد للطبقات وتقسيم العمل.لذلك يترتب على دولة دكتاتورية البروليتاريا إلغاء كل استغلال للإنسان وهو ما يقتضي الإفراط في القمع طالما أن البورجوازية الوضيعة بشكل خاص تقاتل ظفراً وناباً دفاعاً عن حرفتها وتقسيم العمل كيلا تتحول إلى بروليتاريا تطوعية كما في النظام الاشتراكي السوفياتي.
وهكذا فإن الدرس الأول الذي علمناه التاريخ هو أن الدولة لها وظيفة واحدة لا غير وهي الإعتداء على قطاعات واسعة من الناس وقمعها بمختلف وسائل القمع بعكس ما طالب به الكتاب وبعض أدعياء الماركسية المفلسين. طالب هؤلاء الديماغوجيون بدولة تقيم الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية!!
لنفترض ما لا يجوز افتراضه وهو أن هناك دولة تقيم الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية فعند تحقيق هذه الشروط فلا يعود حالتئذٍ أي وظيفة للدولة وهو ما يستدعي حلها وتلاشيها. لا بد من أن تمارس هذه الدولة كل وسائل القمع كيما تقيم مثل هذه الشروط الصعبة في المجتمع حتى باعتراف أصحابها، بل والمستحيلة في الواقع. مجرد المطالبة بتوفير هذه الشروط المثالية ذلك يعني بالضرورة أن هناك من يعارض مثل هذه الشروط التي يراها في غير صالحه وإذاك يترتب على الدولة أن تقمع مثل هؤلاء المعارضين. من هم أولئك المعارضون؟ ما لم يحدد هؤلاء الدياغوجيون أولئك المعارضين يظل رغاؤهم لغواً بغواً، حيث جنس المعارضين الأعداء يدل على جنس الدولة.
سيهرب هؤلاء الديماغوجيون إلى الأمام ليدّعوا أن ليس لأعداء الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية جنس معين حيث هم من مختلف الطبقات. وهنا يصمت الديماغوجيون خجلاً من أن يعلنوا أن الدولة التي يطالبون بإقامتها هي أيضاً عديمة الجنسية، أي أن دولتهم مستوردة من خارج المجتمع ولا تنتمي لأي من طبقاته وهو لغو بغو بامتياز ؛ وإلا فهي دولة الديموقراطية الشعبية التي ابتدعها ستالين لبلدان شرق أوروبا المتخلفة بعد تحريرها من النازية. يفوت هولاء القوم الديماغوجيين أن دولة الديموقراطية الشعبية التي قامت في شرق أوروبا فقط إنما قامت وحكمت تحت حراسة المركز الخارجي ممثلاً بالجيش الأحمر المنتشر في تلك البلدان. دولة الديموقراطية الشعبية لا تقوم بغير حراسة من قوى خارج المجتمع. وإلا فالتنمية والتي هي سبب قيام دولة الديموقراطية الشعبية ستعمل على تقديم طبقة بعينها على الطبقات المشاركة فتختل معادلة الشراكة في الدولة وتنهار.

كيف لهؤلاء القوم الديماغوجيون أن يدّعوا بالماركسية ويطالبون بذات ىالوقت بالعدالة الإجتماعية. العدالة الإجتماعية تتحقق فقط من خلال سلطة توزع الثروة بعدل – والعدل هنا لا معنى له حيث ميكانزمات السوق الرأسمالية الحرة هي فقط ما تحقق العدالة ولذلك يتوجب إعتبار الدولة في النظام الرأسمالي هي الحارس الأمين على توزيع الثروة الاجتماعية بالعدالة المثلى حيث مختلف منتوجات المجتمع تتنافس في السوق في استحقاق القيمة ولكل منتوج استحقاقه ؛ وحتى قوى العمل فتستبدل بقيمتها التي تعيد إنتاجها وفائض القيمة لا يخالف عدالة السوق – نعود للقول أن عدالة التوزيع التي لا تركن لميكانزمات السوق تحتاج إلى دولة، دولة لا تعترف بميكانزمات السوق وتوزع الثروة بطريقة مختلفة وعادلة يعارض منطوق قانون القيمة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو ماهية بنية مثل هذه الدولة التي لا تعترف بقانون القيمة الرأسمالية!! هل هي دولة العمال التي لا بد وأن تنحاز للعمال؟ أم هي دولة البورجوازية الوضيعة التي هي أشرس دولة في افتراس العمال بعد إلغاء الطبقة الرأسمالية وهي من طينة الدول السائدة اليوم في كل العالم؟
لن يفلت هؤلاء الديماغوجيون من تجنيس دولتهم الخيالية، دولة العدالة الإجتماعية، وعندما لا يفلحون في ذلك، ولن يفلحوا، يتوجب عليهم أن يعودوا إلى الرشد الماركسي ويكفوا عن الرطانة الديماغوجية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي