الصوماليّة صادا مير التي هاجرت إلى السويد وهي في الرابعة عشرة من عمرها تقدّم مثالا ساطعا على أن الأزمات والمصاعب والمحن قد لا تستطيع أحيانا أن تقهر الإنسان، وتحطم إرادته، بل قد قد تشحنه بقوة خارقة وبعزم ثابت من أجل تحقيق أحلامه وأمانيه!
وكان مولد صادا مير عام 1976 في مدينة هرجيسا الواقعة شمال البلاد، في الجزء الذي كانت تحتله بريطانيا سابقا. غير أن عائلتها انتقلت للعيش في العاصمة ماغاديشو وهي لا تزال رضيعة. وكان والدها يعمل في الشرطة، في القسم المخصص للجرائم. وهو ما أتاح لعائلته أن تعيش حياة مترفهة حيث كانت تقيم في فيلاّ جميلة، بحديقة كانت الفتاة الصغيرة تحبّ أن تجلس فيها لتتأمل الأزهار في الأيام الجميلة. وذات يوم كانت جالسة هناك. فجأة انفجرت قنبلة لتعلن عن انهيار نظام سيد بريّ، مشعلة حروبا ومعارك طاحنة ستمزق الصومال، وتشرّد أعدادا وفيرة من أهله، وتبعث للوجود قوى الشر والظلام لتحول حياة الصوماليين بجميع فئاتهم إلى جحيم يومي.
حدث ذلك عام 1988. فقد استغلت مجموعات فساد النظام، وانتشار الرشوة في مؤسسات الدولة، وتفشي المجاعة في مناطق مختلفة من البلاد لكي تزحف على العاصمة ماغاديشو منهية سنين طويلة من حكم سياد بري. ولم تلبث السلطات الثورية الجديدة أن ألقت القبض على العديد من المتعاونين مع النظام القديم.وكان والد صادا واحدا من هؤلاء. ومن دون محاكمة قامت بإعدامه تماما مثلما فعلت مع آلاف من المدنيين دفنوا في مقابر جماعيّة. وأمام هذه الأهوال المتتالية، قررت والدة صادا الفرار مع أبنائها من ماغاديشو لتبدأ رحلة شاقة موسومة بالعذاب والخوف والألم.ف قد كانت الطرق غير آمنه. وكانت العصابات تروّع الناس، وتغتصب النساء، وتنهب البيوت والمحلات التجارية في وضح النهار.وكان على والدة صادا أن تبيع مجوهراتها لكي تتمكن من اقتناء الطعام لأبنائها.وتقول صادا:”عشنا أشهرا طويلة متنقلين من مكان إلى آخر، فارين من نيران المعارك. وبسبب هذا التنقّل المتواصل، فقدت الإحساس بالمكان والزمان. وكنت أرى نفسي شبحا هائما على وجه الأرض. وقد مررنا بمدينة هرجسيا، مسقط رأسي. غير أننا لم نلبث أن غادرناها. فقد كانت الألغام في كل مكان نمر به.وبسبب الخوف أشرفنا على الجنون!”...
بعد مرور عامين على اندلاع الحرب الأهليّة في الصومال، تمكنت العائلة من الحصول على اللجوء في السويد لتستقر في مدينة مالمو الواقعة في جنوب البلاد. وتتذكر صادا أن وصول عائلتهاإلى هذه المدينة تمّ في قلب الشتاء. وكانت الشوارع مغطاة بالثلوج.كان الصقيع يجمد الدم في العروق. ومن النظرة الأولى، عاينت صادا الصغيرة أنها تدخل إلى عالم جديد، وبدا لها كلّ شيء مختلفا عن كل ما شاهدته حتى ذلك الحين بما في ذلك الأشجار، والماء، ووجوه الناس. وكانت البداية صعبة. فالتكيف مع حياة جديدة بدا وكأنه مستحيل. لكن شيئا قشيئا، شرعت صادا في التأقلم مع الحياة السويدية. ففي ظرف نصف عام فقط، تعلمت اللغة السويدية، مظهرة رغبة في التعرف على تاريخ البلاد، وعلى ثقافتها، وعاداتها، وتقاليدها، وأدبها أيضا. وها هي تتردّد يوميّا على المكتبات لكي تحصل على ما تبتغيه. وفي المعهد الذي انتسبت إليه، أظهرت جدية أبهجت أساتذتها.لكن لمّا عبّرت عن رغبتها في التوجه الى قسم العلوم، سخر منها أستاذ تفوح منه رائحة العنصرية قائلا:”العلوم لا تصلح للصوماليين أمثالك!”. جرحها كلامه إلاّ أنها اكتفت بالنظر إليه بشيء من التحدي. ومنذ تلك اللحظة، قررت أن تثبت لذلك الأستاذ أن الفتاة الصومالية التي عاملها بتعال قادرة على أن تكون فالحة في مجال العلوم. بعد حصولها على شهادة الباكلوريا، انتسبت الى الجامعة لتشرع في دراسة الأنثروبولوجيا. وفي هذه الفترة تذكرت بلادها، وبدأت تحنّ إلى تلك الأراضي، والجبال العارية التي شاهدتها وهي طفلة صغيرة. حال إحرازها على شهادة الماجستير من جامعة مالمو، انطلقت صادا الى لندن للدراسة في معهد الدراسات الشرقيّة والإفريقية في لندن. ومن هذا المعهد حصلت على ديبلوم في الدراسات الأنثروبولوجية عام 2005. وهي تقول:”نعم ..كان لا بدّ من التحلي بالصبر والشجاعة لتحقيق ما كنت أحلم به. وعليّ أن أعترف بفضل السويد عليّ وعلى عائلتي.فأختي الصغرى درست الطب، وهي الآن تعمل في إحدى المستشفيات في الدانمارك. ومعنى هذا أن عائلتي نجحت في التأقلم رغم المصاعب الكثيرة التي اعترضتها”.
وكانت صادا في الثامنة والعشرين من عمرها لمّا سافرت الى كينيا المجاورة للصومال. وفي وقت وجيز، أدركت أن البحوث الأنثروبولوجية الحقيقية لابد أن تتمّ ميدانيا. كما أدركت أن بلادها التي تعيش العنف والفوضى بسبب الحروب المتواصلة، يمكن أن تكون المجال الأفضل لأبحاثها. لذلك بدأت تفكر في العودة إليها. ولكن هل بإمكنها أن تفعل ذلك؟ لوقت طويل، ظلت تطرح على نفسها هذا السؤال. وكان عليها في النهاية أن تقنع نفسها بأن الذي يخاف المصاعب، ويتجنب العراقيل، لا يكون باستطاعته أن يحقق أمانيه وأحلامه. لذا عليها أن تتسلح بالإرادة وبالتحدي لكي تثبت مرة أخرى لذلك الأستاذ السويدي الذي أهانها أنها قادرة على أن تعيش حياتها مستقبلا كمغامرة أنثربولوجية. وفي عام 2007،ح طت بها الطائرة في مطار هرجيسا التي كانت تعيش آنذاك نوعا من الهدوء مقارنة بالمدن الصومالية الأخرى. وفي هذه المدينة، التقت بالبعض من أفراد عائلتها، وعاينت أن طبقة جديدة برزت للوجود، وأن رموزها يتنقلون في سيارات رباعيّة الدفع، ويملكون فنادق وفيلات فخمة، ويرتادون مطاعم فاخرة. وقد ابتهجت كثيرا عندما قامت إحدى القنوات التلفزية بالإعلان عن عودتا الى البلاد بعد غياب دام 16 عاما.كما أن إحدى الصحف نشرت على غلافها الأول صورة لها. وبسرعة أصبحت مشهورة في المدينة كلها، وسماها الناس "فتاة الأنثروبولوجيا". وفي حوار أجرته معها مجلة "فانبتي فار"،قالت صادا مير ضاحكة:”من السهل ان يصبح الإنسان مشهورا جدا في الصومال في بضعة أيام، بل ربما في بضع ساعات!”.
وبعد لقاء مع وزير الثقافة، التقت برئيس الجمهورية الذي ينتمي الى مدينة عبازا المشهورة بمعالمها التاريخية، والتي لا تزال محافظة على عراقتها القديمة. وفي نهاية اللقاء، عيّنها الرئيس مشرفة على مركز الأبحاث الأنثروبولجية، ومنحها الحرية المطلقة والمساعدات المادية لكي تقوم بأبحاثها في ظروف حسنة. وهي تجوب القرى المعزولة في الصحاري، وفي الجبال، والمتوزعة على الحدود مع اثيوبيا، ومع كينيا. ومع السكان الأميين تتحدث عن ظروف عيشهم الصعبة والقاسية، وتأخذ صورا لهم، وللمشاهد الطبيعية في المناطق التي تزورها، وفيها تتوقف لأيام عدة لدراسة أوضوعها الأنثروبولوجية. وأحيانا يقدم لها البعض من المواطنين أدوات قديمة، أو صحونا من الطين اختفت، ولم تعد متداولة بين الناس. وهم يرغبون في بيعها للأجانب، الببض منهم بالخصوص. لذا هي تجد نفسها مجبرة على أن تفسر لهم أن هدف الأنثروبولوجيا ليس التجارة، وإنما دراسة الحياة المعيشية وأدواتها في أزمنة مختلفة. وهي تقول:”لوقت طويل ، خصوصا في العهد الإستعماري، كانت الأنثروبولوجيا حكرا على البيض. وكانوا يستغلونها لصالحهم، ولا يطلعون أهل البلاد على نتائج أبحاثهم.كما يخفون عنهم أهدافهم الحقيقية من خلال ذلك.وهم يشترون أشياء قديمة بأبخس الأثمان ليعرضوها في بلدانهم". ولا تتردد صادا مير في زيارة البعض من المقابر، البيوت المتروكة منذ زمن بعيد، وفي البحث في المغاور والكهوف عن ما يمكن أن يمنح أبحاثها أبعادا جديدة، غير مألوفة من قبل. وعلى ضفاف البحر الأحمر، كتشفت موقعا مدهشا للفنّ الصخري يعود تاريخه الى 3000سنة قبل الميلاد.
وفي عام 2009، حصلت صادا مير على شهادة دكتوراة في الدراسات اللأنثروبولجية من جامعة لندن.بعدها أصبحت أستاذة في جامعة لايدن بهولندا.غ ير أنها لم تكف عن مواصلة رحلاتها الى بلادها لمواصلة أبحاثها. وهي تقول:”أنا أعيش هنا في لايدن حيث أدرّس حياة أوروبية. فلا فرق في اللباس بيني بين امرأة هولندية متحرّرة. لكن لما أعود إلى الصومال، أحبذ أن أرتدي الزيّ التقليدي. فقد تغيرت البلاد كثيرا خلال العقود الثلاثة الماضية. في طفولتي، كانت الفتيات ترتدين "اليني جيب" من دون أن تثرن حفيظة الرجال. أماالآن فهذا أمر بات مستحيلا. وكل النساء تقريبا يضعن الحجاب.و ثمة مدن وقرى لا ترى فيها غير المنقبات. وفي العاصمة ماغاديشو"يقوم "الشباب" المتطرفون بترويع السكان، وترهيبهم باسم الدين.وهم يريدون أن يفرضوا الشريعة على الجميع. وفي كل يوم،يرتكبون أفعالا مشينة، ويهاجمون البيوت والمحلات التجارية لمنع الموسيقى ،والأفلام . كما في سوريا، وفي العراق، هم يهدمون كل الآثار الشاهدة على الماضي، وعلى ثقافات وحضارات قديمة....إننا نعيش زمنا أسود. ولست ادري متى تكون نهاية لهذا الزمان!”