: آخر تحديث

الصومالية صادا مير أو الحياة كمغامرة أنثروبلوجية

106
133
116

الصوماليّة صادا مير التي هاجرت إلى السويد وهي في الرابعة عشرة من عمرها تقدّم مثالا ساطعا على أن الأزمات والمصاعب والمحن قد لا تستطيع أحيانا أن تقهر الإنسان، وتحطم إرادته، بل قد قد تشحنه بقوة خارقة وبعزم ثابت من أجل تحقيق أحلامه وأمانيه!

وكان مولد صادا مير عام 1976 في مدينة هرجيسا الواقعة شمال البلاد، في الجزء الذي كانت تحتله بريطانيا سابقاغير أن عائلتها انتقلت للعيش في العاصمة ماغاديشو وهي لا تزال رضيعةوكان والدها يعمل في الشرطة، في القسم المخصص للجرائموهو ما أتاح لعائلته أن تعيش حياة مترفهة حيث كانت تقيم في فيلاّ جميلة، بحديقة كانت الفتاة الصغيرة تحبّ أن تجلس فيها لتتأمل الأزهار في الأيام الجميلةوذات يوم كانت جالسة هناكفجأة انفجرت قنبلة لتعلن عن انهيار نظام سيد بريّ، مشعلة حروبا ومعارك طاحنة ستمزق الصومال، وتشرّد أعدادا وفيرة من أهله، وتبعث للوجود قوى الشر والظلام لتحول حياة الصوماليين بجميع فئاتهم إلى جحيم يومي.

حدث ذلك عام 1988. فقد استغلت مجموعات فساد النظام، وانتشار الرشوة في مؤسسات الدولة، وتفشي المجاعة في مناطق مختلفة من البلاد لكي تزحف على العاصمة ماغاديشو منهية سنين طويلة من حكم سياد بريولم تلبث السلطات الثورية الجديدة أن ألقت القبض على العديد من المتعاونين مع النظام القديم.وكان والد صادا واحدا من هؤلاءومن دون محاكمة قامت بإعدامه تماما مثلما فعلت مع آلاف من المدنيين دفنوا في مقابر جماعيّةوأمام هذه الأهوال المتتالية، قررت والدة صادا الفرار مع أبنائها من ماغاديشو لتبدأ رحلة شاقة موسومة بالعذاب والخوف والألم.ف قد كانت الطرق غير آمنهوكانت العصابات تروّع الناس، وتغتصب النساء، وتنهب البيوت والمحلات التجارية في وضح النهار.وكان على والدة صادا أن تبيع مجوهراتها لكي تتمكن من اقتناء الطعام لأبنائها.وتقول صادا:”عشنا أشهرا طويلة متنقلين من مكان إلى آخر، فارين من نيران المعاركوبسبب هذا التنقّل المتواصل، فقدت الإحساس بالمكان والزمانوكنت أرى نفسي شبحا هائما على وجه الأرضوقد مررنا بمدينة هرجسيا، مسقط رأسيغير أننا لم نلبث أن غادرناهافقد كانت الألغام في كل مكان نمر به.وبسبب الخوف أشرفنا على الجنون!”...

بعد مرور عامين على اندلاع الحرب الأهليّة في الصومال، تمكنت العائلة من الحصول على اللجوء في السويد لتستقر في مدينة مالمو الواقعة في جنوب البلادوتتذكر صادا أن وصول عائلتهاإلى هذه المدينة تمّ في قلب الشتاءوكانت الشوارع مغطاة بالثلوج.كان الصقيع يجمد الدم في العروقومن النظرة الأولى، عاينت صادا الصغيرة أنها تدخل إلى عالم جديد، وبدا لها كلّ شيء مختلفا عن كل ما شاهدته حتى ذلك الحين بما في ذلك الأشجار، والماء، ووجوه الناسوكانت البداية صعبةفالتكيف مع حياة جديدة بدا وكأنه مستحيللكن شيئا قشيئا، شرعت صادا في التأقلم مع الحياة السويديةففي ظرف نصف عام فقط، تعلمت اللغة السويدية، مظهرة رغبة في التعرف على تاريخ البلاد، وعلى ثقافتها، وعاداتها، وتقاليدها، وأدبها أيضاوها هي تتردّد يوميّا على المكتبات لكي تحصل على ما تبتغيهوفي المعهد الذي انتسبت إليه، أظهرت جدية أبهجت أساتذتها.لكن لمّا عبّرت عن رغبتها في التوجه الى قسم العلوم، سخر منها أستاذ تفوح منه رائحة العنصرية قائلا:”العلوم لا تصلح للصوماليين أمثالك!”. جرحها كلامه إلاّ أنها اكتفت بالنظر إليه بشيء من التحديومنذ تلك اللحظة، قررت أن تثبت لذلك الأستاذ أن الفتاة الصومالية التي عاملها بتعال قادرة على أن تكون فالحة في مجال العلومبعد حصولها على شهادة الباكلوريا، انتسبت الى الجامعة لتشرع في دراسة الأنثروبولوجياوفي هذه الفترة تذكرت بلادها، وبدأت تحنّ إلى تلك الأراضي، والجبال العارية التي شاهدتها وهي طفلة صغيرةحال إحرازها على شهادة الماجستير من جامعة مالمو، انطلقت صادا الى لندن للدراسة في معهد الدراسات الشرقيّة والإفريقية في لندنومن هذا المعهد حصلت على ديبلوم في الدراسات الأنثروبولوجية عام 2005. وهي تقول:”نعم ..كان لا بدّ من التحلي بالصبر والشجاعة لتحقيق ما كنت أحلم بهوعليّ أن أعترف بفضل السويد عليّ وعلى عائلتي.فأختي الصغرى درست الطب، وهي الآن تعمل في إحدى المستشفيات في الدانماركومعنى هذا أن عائلتي نجحت في التأقلم رغم المصاعب الكثيرة التي اعترضتها”.

وكانت صادا في الثامنة والعشرين من عمرها لمّا سافرت الى كينيا المجاورة للصومالوفي وقت وجيز، أدركت أن البحوث الأنثروبولوجية الحقيقية لابد أن تتمّ ميدانياكما أدركت أن بلادها التي تعيش العنف والفوضى بسبب الحروب المتواصلة، يمكن أن تكون المجال الأفضل لأبحاثهالذلك بدأت تفكر في العودة إليهاولكن هل بإمكنها أن تفعل ذلك؟ لوقت طويل، ظلت تطرح على نفسها هذا السؤالوكان عليها في النهاية أن تقنع نفسها بأن الذي يخاف المصاعب، ويتجنب العراقيل، لا يكون باستطاعته أن يحقق أمانيه وأحلامهلذا عليها أن تتسلح بالإرادة وبالتحدي لكي تثبت مرة أخرى لذلك الأستاذ السويدي الذي أهانها أنها قادرة على أن تعيش حياتها مستقبلا كمغامرة أنثربولوجيةوفي عام 2007،ح طت بها الطائرة في مطار هرجيسا التي كانت تعيش آنذاك نوعا من الهدوء مقارنة بالمدن الصومالية الأخرىوفي هذه المدينة، التقت بالبعض من أفراد عائلتها، وعاينت أن طبقة جديدة برزت للوجود، وأن رموزها يتنقلون في سيارات رباعيّة الدفع، ويملكون فنادق وفيلات فخمة، ويرتادون مطاعم فاخرةوقد ابتهجت كثيرا عندما قامت إحدى القنوات التلفزية بالإعلان عن عودتا الى البلاد بعد غياب دام 16 عاما.كما أن إحدى الصحف نشرت على غلافها الأول صورة لهاوبسرعة أصبحت مشهورة في المدينة كلها، وسماها الناس "فتاة الأنثروبولوجيا". وفي حوار أجرته معها مجلة "فانبتي فار"،قالت صادا مير ضاحكة:”من السهل ان يصبح الإنسان مشهورا جدا في الصومال في بضعة أيام، بل ربما في بضع ساعات!”.

وبعد لقاء مع وزير الثقافة، التقت برئيس الجمهورية الذي ينتمي الى مدينة عبازا المشهورة بمعالمها التاريخية، والتي لا تزال محافظة على عراقتها القديمةوفي نهاية اللقاء، عيّنها الرئيس مشرفة على مركز الأبحاث الأنثروبولجية، ومنحها الحرية المطلقة والمساعدات المادية لكي تقوم بأبحاثها في ظروف حسنةوهي تجوب القرى المعزولة في الصحاري، وفي الجبال، والمتوزعة على الحدود مع اثيوبيا، ومع كينياومع السكان الأميين تتحدث عن ظروف عيشهم الصعبة والقاسية، وتأخذ صورا لهم، وللمشاهد الطبيعية في المناطق التي تزورها، وفيها تتوقف لأيام عدة لدراسة أوضوعها الأنثروبولوجيةوأحيانا يقدم لها البعض من المواطنين أدوات قديمة، أو صحونا من الطين اختفت، ولم تعد متداولة بين الناسوهم يرغبون في بيعها للأجانب، الببض منهم بالخصوصلذا هي تجد نفسها مجبرة على أن تفسر لهم أن هدف الأنثروبولوجيا ليس التجارة، وإنما دراسة الحياة المعيشية وأدواتها في أزمنة مختلفةوهي تقول:”لوقت طويل ، خصوصا في العهد الإستعماري، كانت الأنثروبولوجيا حكرا على البيضوكانوا يستغلونها لصالحهم، ولا يطلعون أهل البلاد على نتائج أبحاثهم.كما يخفون عنهم أهدافهم الحقيقية من خلال ذلك.وهم يشترون أشياء قديمة بأبخس الأثمان ليعرضوها في بلدانهم". ولا تتردد صادا مير في زيارة البعض من المقابر، البيوت المتروكة منذ زمن بعيد، وفي البحث في المغاور والكهوف عن ما يمكن أن يمنح أبحاثها أبعادا جديدة، غير مألوفة من قبلوعلى ضفاف البحر الأحمر، كتشفت موقعا مدهشا للفنّ الصخري يعود تاريخه الى 3000سنة قبل الميلاد.

وفي عام 2009، حصلت صادا مير على شهادة دكتوراة في الدراسات اللأنثروبولجية من جامعة لندن.بعدها أصبحت أستاذة في جامعة لايدن بهولندا.غ ير أنها لم تكف عن مواصلة رحلاتها الى بلادها لمواصلة أبحاثهاوهي تقول:”أنا أعيش هنا في لايدن حيث أدرّس حياة أوروبيةفلا فرق في اللباس بيني بين امرأة هولندية متحرّرةلكن لما أعود إلى الصومال، أحبذ أن أرتدي الزيّ التقليديفقد تغيرت البلاد كثيرا خلال العقود الثلاثة الماضيةفي طفولتي، كانت الفتيات ترتدين "اليني جيبمن دون أن تثرن حفيظة الرجالأماالآن فهذا أمر بات مستحيلاوكل النساء تقريبا يضعن الحجاب.و ثمة مدن وقرى لا ترى فيها غير المنقباتوفي العاصمة ماغاديشو"يقوم "الشبابالمتطرفون بترويع السكان، وترهيبهم باسم الدين.وهم يريدون أن يفرضوا الشريعة على الجميعوفي كل يوم،يرتكبون أفعالا مشينة، ويهاجمون البيوت والمحلات التجارية لمنع الموسيقى ،والأفلام كما في سوريا، وفي العراق، هم يهدمون كل الآثار الشاهدة على الماضي، وعلى ثقافات وحضارات قديمة....إننا نعيش زمنا أسودولست ادري متى تكون نهاية لهذا الزمان!”


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في