: آخر تحديث
الديمقراطية والمساواة والحرية

قراءة في كتاب الثورة والقابلية للثورة

126
126
130

الجزء الثاني
ارتبطت فكرة الديمقراطية بداية بفكرة المساواة، والمقصود ليس المساواة بين المحكومين فحسب، بل بين الحكام والمحكومين ومن هنا اعتبرت الديمقراطية من وجهة نظر نخبة المدينة اليونانية كحالة اللا حكم او حكم العامة، التي كان افلاطون يعارضها لانها نوع من الحرية السلبية ويفضّل عليها حكم النخبة.
ان الاصل في الديمقراطية الحديثة هو المساواة المصنوعة والمنظمة قانوناً بين اللا متساوين طبيعياً كأفراد، متساوين كمواطنين ويصبح تنظيم الحرية مسالة تخص الدولة ولا تكون الحرية نقضياً للمساوة، اي ان تصبح المساوة في المواطنة شرط للحرية. ان مصطلح الحرية في الثورة الامريكية كان الغاية منه الحرية في المكان، اما في الثورة الفرنسية فكان نقيضاً للرق كلفظ الحر في الحضارة الاسلامية، بعد الثورة الفرنسية اخذت الحرية بعد سياسي وهو النافي للقيود المكبلة للحريات (ليبرتي )، ثم بعدها باتت تعني مشاركة المواطن في تقرير مصيره عبر المشاركة في ادارة شؤون الوطن (فري دم او فري زيتزن ).
تسعى الثورات الحديثة الى التحرر من قمع الحرية ومن القيود التي تكبل حرية الانسان اضافة الى التحرر من الخوف ومن الحاجات الاساسية التي في حال عدم تلبيتها تستعّبد الروح والجسد اضافة الى الحرية السياسية والاجتماعية التي تمارس عبر المشاركة في تقرير المصير وصناعة القرار وهو البعد الثاني للحرية، فالحرية السياسية هي الحرية الممأسساة التي تضمن مشاركة المواطن في الدولة. 
اي نظام ديمقراطي يتألف من: التحرر من " وهي الحريات المدنية"، ومن الحرية في " وهي الحقوق المواطنية السياسية"، اي البناء الديمقراطي التالي للحرية وهو ماقد تفشل الثورات الحديثة من تحقيقه.
وحيث ان عملية بناء الديمقراطية هي عملية معقدة، من الموازنة بين العام والخاص والرقابة على االسلطات وتنظيم عملية مشاركة المواطنين بالاقتراع قبله وبعده، وضمان ان لا تكون الاغلبية اغلبية هوية ثابتة بل اغلبية رأي ومصالح والا تعتبر الاقليات على مستوى الهوية اقليات سياسية.
ان تعدد الجماعات المعترف بها ككيانات سياسية يمثل ضمانة للحرية من الاستبداد ويضمنها تعدد السلطات والفصل بينها.
في لبنان حرية اكثر وديمقراطية اقل، اذ تتوقف حدود الحرية عند الطائفة.
في بلد مثل كندا تحققت الديمقراطية من دون ثورة لان المجتمع الكندي نظم نفسه في حلول وسط واستقل عن بريطانيا من دون ثورة، ومن بعدها انتقل لبناء دول الرفاه.
والثورة في الفكر اليوناني القديم كانت مرتبطة بحركة الكون اي حركة دائرية والعودة للاصل ( وهنا يعتبر البعض ان الاصل هو الشعب) وحتمية انتصارها، والثورة هي مترافقة مع حتمية الانتصار والنهاية، اما اذا فشلت فلا يقال عنها ثورة فاشلة بل تمرد او انتفاضة، ومن هنا جاء خوف الحكام من كلمة ثورة وكانها تعويذة او لعنة، لانها اذ ما استخدمت فهي تعني تحركاً لا رجعة فيه قبل بلوغ مقتضاها، وبالتالي فالثورة تنشئ واقعاً موضوعياً يتميز بعدم امكانية العودة عنه، والثورة هي فعل ايديولوجي بامتياز لا علاقة له بالمنهج العلمي وكان النموذج في اوربا هو الثورة الفرنسية فعلى هدى مراحلها ومصطلحاتها سار وفكّر الثوار اللاحقون في كافة الثورات.
كانت الظاهرة اللافتة في الثورة الفرنسية هي ظهور اؤلئك الفقراء الذين كانوا خارج الحيز العام والمنزوين في منازل الحرمان، وكانوا تياراً كاملاً وسموا اللامتسرولين وكانوا اسرى حاجات اجسادهم التي لا يستطعون تلبيتها وهي التي تضغط عليهم باستمرار، وكانوا هم من جعلوا من نهاية الثورة حتمية، اي هم من جعلوا هدف الثورة سعادة الشعب وهو الامر الجديد الذي بنيت عليه مفاهيم المواطنة لاحقاً.
الا ان الفقر والعوز قد يفقد الجماهير معنى الحرية مما يسهل تحريضها ضد حقوق مدنية بحجة ترف الاغنياء وكذلك سهولة تحشيد الفقراء من اجل هوية أصلانية، دينية او قومية ضد زيف مظاهر الحرية الفارغة من المضمون بالنسية للفقراء، وحيث ان هؤلاء الفقراء يرفضون ديمقراطية قائمة تعطي احتكار الاغنياء للثورة ولا تستطيغ فئات واسعة من الشعب تأمين عيش كريم. وعموما ينشأ الخطاب الشعبوي في ظروف نقص الديمقراطية.
فمن بلور فكرة الشعب هم اولئك الذين تصرفوا بوصاية على الشعب خالطين الشفقة على الشعب مع الرومانسية المتعلقة بطيبة الشعب وعدالته وهي المرحلة اليعقوبية في الثورة وهي الطيبة الشعبية التي تفترضها الرومنسية الشعبوية، وكان من المفترض ان تحل محل الاهتمام الجدي باشكال الحكومة ومؤسساتها اي تنظيم ممارسة الحرية السياسية والسلطة وهو ما ميز الجيرونديين المعتدلين مقارنة باليعاقبة الثوريين.
الامر الاخر المهم ان الملك الفرنسي لويس السادس عشر، اعدم وقطعت راسه لتهمة الخيانة والتعامل مع دول اجنبية ضد الثورة وكذلك تهمة الملك الانكليزي شارل الاول حين أقر البرلمان الانكليزي اعدامه، لذا يبدوا بديهيا عدم تواطأ الثوار مع اجانب.
ان انتقال السيادة للامة يعني انشاء هيئات جديدة تكون مصدر للشرعية بعد تحطيم مصدر الشرعية الاول اي الحق الالهي ومصدر الشرعية الثاني اي سيادة الملك وتكمن الازمة في نقطة البداية: من يمنح الشرعية لمن يضع الدستور ومن يمنح الشرعية للجمعية التأسيسية ومن يمنح الشرعية لمن يدعوا للانتخابات ولقانون الانتخابات، كل ذلك الى ان تبدأ الديمقراطية باعادة انتاج ذاتها فتنتهي الازمة بسبب وجود اشكال منظمة من التعبير عن الشعب والادراة العامة وذلك لان هنالك مبادئ مشتركة ويجب ان يقوم عليها الدستور.
كان للثورة الفرنسية موجات ارتدادية في ارجاء اوربا وخاصة بعد العهد النابوليوني في فترة ما بين 1830 و1848 وهي الحقبة الاكثر شبها بالمرحلة العربية الراهنة، من حيث انتشار فكرة الثورة وحرص الحكومات القائمة على اتخاذ الخطوات الاحترازية لاحباطها وكذلك من حيث تحول الثورة وانتشار فكرة الديمقراطية في اطار الدولة الوطنية ومن ازمات وغيرها.
وفي الكثير من الحالات الاوربية كان الدستور الديمقراطي يتحقق رغم فشل الثورة فيها اي بعد فشلها في اسقاط النظام.
وعلى الرغم من حرص الحكومات الاوربيّة على عدم تكرار ثورة ثانية على الطريقة الفرنسية ورغم محاربتهم لها الا انه لم يحدث في التاريخ الاوربي الا نادرا ان تكون النزعة الثورية وبائية شاملة وسريعة الانتشار كالعدوى التلقائية او الدعاية المنظمة على السواء.
كما قادت النمسا تحالف اوربا الرجعية ضد نابليون وكانت صاحبة الموقف الداعي الى اخماد جميع الحركات والثورات بصورة فورية لمصلحة الانظمة القديمة وهو موقف يشبه الى حد ما موقف السعودية من الثورات الحالية الى ان تلك التحركات من تحالف الرجعية الاوربية لم يستطع كبح جماح الثورات التي جاءت على شكل موجات، كانت الاولى بين اعوام 1820 و1824 في اسبانيا ونابولي واليونان وقد نجحت اليونان وحدها ثم نشبت ثورات في امريكا اللاتينية وانفصلت البرازيل عن البرتغال عام 1822 ثم تلتها تحرر غالبية دول امريكا الجنوبية من اسبانيا.
ثم الموجة الثورية الثانية عام 1830 فالثالثة والاكبر عام 1848 والتي سميت ربيع الشعوب , يشبه انتشار اطلاق تسمية ثورة في تلك المرحلة على اي انتفاضة شعبية حال وقوعها وتسمية الحركات الاحتجاجية العربية لنفسها باستخدام مفردة الثورة بعد الثورة التونسية والمصرية وقد تحول بعضها الى ثورة بالفعل.
 تلك المرحلة من تاريخ اوربا شهدت تبلور فئة من الناس يمكن تسميتهم بالثوريين والذين مهمتهم تنظيم الثورة السياسية ولم يشهد التاريخ نشوء عدد كبيرمن الجمعيات السرية تعمل على نشر الفكر الثوري ضد الانظمة القديمة كما شهد في تلك المرحلة.
ساد الاعتقاد لدى الثوريين الاوربين في القرن التاسع عشر ان قضية الشعوب واحدة وتنقّل الكثير منهم من بلد الى اخر للنضال من اجل الديمقراطية والاستقلال الوطني.
فقد شارك مازيني في تاسيس جمعيات في ايطاليا (ايطاليا الفتاة ) ثم المانيا الفتاة وفي بولندا (بولندا الفتاة ) وطمح لربطها جميعا في جمعية اوربا الفتاة.
حيث كان يؤمن بان لكل شعب رسالة خاصة هي مساهمته الخاصة في تحقيق الرسالة العامة الانسانية.
في التحول الديمقراطي، يجب ان لا تتعارض القوة القومية التوحيدية الجامعة مع الهوية الوطنية، وحيث ان مهمة الثورة هي البحث عما يجمع المواطنين في الدولة وليس ما يفرقهم، اما اذا فشلت في ذلك من ناحية بنيتها وبرنامجها وشعاراتها، فقد تقود الى الاحتراب الاهلي بدل التحول الديمقراطي.
حفزّت الثورة الفرنسية ثورات عديدة في امريكا اللاتينية و كذلك حركات وطنية في الهند واطلقت افكار النهضة والحداثة في العالم العثماني والعربي، وكان العثمانيون الجدد الذين قادوا الاصلاحات قد اثاروا اعجاب المثقفين الاوربيين وذلك بهدف مواجهة التداخل الاوربي الاجنبي، وخلق مواطنة عثمانية متساوية بغض النظر عن الجنس واللغة والدين قبل ان يقوض مشروعهم بالتدخل الاوربي.
في النصف الاول من القرن العشرين استلهم عدد من الوطنين من قيم الثورة الفرنسية، الم يكن شعار الثورة السورية الكبرى هو الحرية والاخاء والمساواة وهي نفسها قيم الثورة الفرنسية؟
وتطورت الثورة الفرنسية من الملكية الدستورية الى الجمهورية بعدما حاول الملك الفرنسي الهرب من البلاد مما اعتبر تخلياً عن الشعب، مما ادى الى ارتفاع وتيرة النزعة الجمهورية وشدّتها وتخلى الشعب عن الملك بعدما تخلى الملك عن الشعب.
 من اكتشفات الثورة الفرنسية حشد حميع موارد الامة والغاء الفوراق بين الجنود والمواطنين كامتيازات طبقة الفرسان و من خلال التجنيد (تجيش الامة ) اي جعلها حق للمواطن مما ادى الى خلق جيش وطني من المواطنين والسيطرة على الاقتصاد، مما ادى ان تكسب الثورات حروبا يستحيل كسبها.
ان الديمقراطية كما نعرفها اليوم لم تقم من خلال الثورات وانما من خلال عملية اصلاح طويلة، وذلك مرده الى ان الانقلاب الديمقراطي او الثوري بهدف اقامة نظام ديمقراطي هو امر نادر الحدوث لانه يتطلب وجود قوى ديمقراطية على درجة عالية من التنظيم والقوة. وقلما تاتي الديمقراطية دفعة واحد من خلال عمل ثوري واحد يؤدي الى ان يمسك الديمقراطيون بالسلطة بفعل انقلابي، وحتى الثورة الفرنسية في العام 1789 لم تنشئ نظاماً ديمقراطيا متكاملاً بل مرت بمرحلة اليعاقبة واعقبتها ردّات نابلوينية وملكية.
الثورة لتغير النظام امر ضروري في الدول الاستبدادية الرافضة للإصلاح، وتغير النظام شرط ضروري ولكنه غير كاف فالثورة الديمقراطية تحديداً لا تقود الى الديمقراطية بفعل واحد وهو قلب نظام الحكم بل من خلال عملية اصلاح وبناء طويلة المدى تعقب تغير النظام.
الثورة الديمقراطية و الايديولوجية 
لا يذكر التاريخ ثورة شعبية او نجحت ان تكون شعبية على اساس تحقيق برنامج قائم مسبقاً على ايديولوجية سياسية وفكرية وحركية معلنة.
وحتى الثورات التي انتهت الى انظمة ذات ايديولوجية رسمية كما في الحالة الروسية والكوبية والايرانية وغيرها..... حيث الثورات تكون ابتداءً ضد الظلم او لتغير نظام الحكم او ضد الاستعمار، وقد جلبت الاحزاب المهيمنة او التي غدت مهيمنة اليها وادت سيطرة حزب او حركة على الثورة في نهايتها. او على السلطة بعد انتهائها الى نشوء هذا النوع من الانظمة.
يمكن القول ان الثورة الفيتنامية لو اعلنت عن نفسها مسبقاً كثورة لاقامة نظام حكم شيوعي لما تجند الشعب للقتال في اطارها بالشكل المعروف.
في الثورات تحرص حتى الاحزاب الايديولوجية على ان تؤكد على برنامج حد ادنى يجمع فئات واسعة من الشعب وقوى سياسية واجتماعية مختلفة وتحاول ان تؤجل او تخفي برنامجا الخاص الى ما بعد وصولها الى السلطة بواسطة الثورة.
لا يمكن تصور جماهير واسعة مدفوعة بالرغبة في اقامة نظام حكم بناء على ايديولوجية حزب من الاحزاب، فالثورة هي ثورات شعبية لا حزبية. الثورات الشعبية شعبية لا حزبية، ولكن الاحزاب التي تسيطر على الثورة بعد تحولها الى سلطة تشئ تاريخاَ للثورة يتسم بالتفخيم الذاتي، ويُبنى على اسطورة او متخيل يشير الى ان هذه الاحزاب هي التي قادت الثورة، او لم تقم هذه الثورة من دونها، في حين ان قوى واحزاباَ اخرى تتهمها بانها لم تفعل الا سرقة الثورة.
والحقيقة ان الثورة اذا كانت ثورة شاملة يقودها حزب ببرنامج شامل ومفصل، فانها غالباً ماتستبدل استبداداً باستبداد، وتفرض بلغة كارل بوبر هندسة اجتماعية كلية جديدة نابعة من عقائدها على شتى حيزات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتحتل الحيز العام باسلحة هيمنوية ومؤسسية جديدة تعيد انتاج الاستبداد القديم بإهاب جيد. كما تكمن المشكلة الاساسية في رغبة الاحزاب التي تشعر بقوتها وتطرح مواقفها الايديولوجية قبل الحسم وترسيخ قواعد النظام الديمقراطي، وهنا يبدأ التخوف من ان تتحول الايديولوجية الحزبية الى ايديولوجية رسمية في الدولة ومؤسساتها.
وهنا يُستشعر من عودة نوع جديد من الاستبداد تقوده احزاب تضع أيديولوجيتها في قواعد اللعبة الديمقراطية، وتضع نفسها فوق الدولة، وتستثمر الثورة لمصالحها الأيديولوجية. 
الثورة الديمقراطية لايجوز ان تبدأ من الصفر بل يجب ان يكون لها برنامج مخطط ومنظم وعبر عملية التحول الديمقراطي لتصل لهدفها وان طالت المدة، والا سوف تقود الا كارثة.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في