: آخر تحديث

بنّي ليفي: من ماوتسي تونغ إلى التّلمود!

215
226
195

مطلع خريف عام 2013، صدرت ثلاثة كتب لليهودي بنّي ليفي الذي توفّي عام 2003 بالسّكتة القلبيّة، وهو في السّابعة والخمسين من عمره. وثمّة صورتان تحرص وسائل الإعلام في فرنسا على نشرهما كلّما تعلّق به أمر مّا. والهدف من ذلك هو إبراز التّحوّل الهائل الذي شهدته مسيرته في السّنوات الأخيرة من شبابه. في الأولى هو في ريعان الشباب، يقرأ في مقاطعة "بروتاني"، بشمال فرنسا، بيانا لماوتسي تونغ في بداية الثورة الثقافية. وفي الثانية هو في هيئة اليهود المتطرّفين غارق في قراءة "التّلمود" في بيته بالقدس!

ولد بنّي ليفي في القاهرة عام 1946. وكان أفراد عائلته يتكلّمون العربيّة في البيت، ولا يمارسون العبادات، والطقوس الدينيّة اليهوديّة. وفي المعهد الفرنسيّ الذي انتسب إليه،أظهر الطفل بنّي ليفي ما لفت له أنظار أساتذته، ورفاقه لما تميّز به من فطنة وذكاء. وكان شديد الإعجاب بأخيه الذي كان من أنصار الحزب الشيوعي المصري،والذي كان مطّلعا جيّدا على الثقافة العربيّة، وعلى تاريخ الإسلام ليصبح في ما بعد أحد كبار المختصّين في هذين المجالين. وفي عام 1956، أي في نفس السنة التي دعا فيها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس، ترك بنّي ليفي القاهرة، وبصحبة عائلته هاجر إلى فرنس. ا وفي باريس انتسب إلى معهد "لوي لوغران"الرّاقي. وعقب حصوله على شهادة الباكلوريا، تمّ قبوله في المدرسة العليا للمعلمين التي تخرّج منها العديد من العباقرة الفرنسييّن في مجال الفكر،والفلسفة،والأدب من أمثال جان بول سارتر، ورايمون أرون، وسيمون دي بوفوار، وميشال فوكو، ولاكان، ولوي ألتسير وغيرهم. ومنذ البداية، انجذب بنّي ليفي إلى الدروس،والمحاضرات التي كان يلقيها لوي ألتوسير الذي كان قد أصدر كتابا يحتوي على قراءة جديدة للماركسيّة. وقد أثار ذلك الكتاب إعجاب عدد وفير من اليساريّين ليصبح "إنجيلهم"، ومرجعهم الأساسي لفهم الفلسفة الماركسيّة. وغالبا ما كان بنّي ليفي يدخل قاعة المحاضرات مصحوبا بالأعمال الكاملة لفلاديمير ايليتش لينين. وعندما اندلعت الثورة الثقافيّة في الصين أواسط الستينات من القرن الماضي، أصبح بنّي ليفي من أشدّ المعجبين بالزعيم الصيني ماوتسي تونغ، ومن المتعلّقين بأفكاره، وأطروحاته في كلّ ما يتعلّق بالثورة الإشتراكيّة. ولكي يربط بين النظريّة والتّطبيق، قام بتأسيس تنظيم سرّيّ يدعو إلى الثورة المسلّحة ضدّ البورجوازيّة والإمبرياليّة. وكان يردّد أمام رفاقه المنبهرين بفصاحته، وبلغته الثوريّة الأخّاذة، بأنّ المكان الحقيقي للمثقّف هو المعمل أو الحقل حتى يتعلّم من العمّال والفلاّحين معنى الحياة، ومعنى العمل، ومعنى التّضحية، ومعنى التّضامن. وكان باآستطاعته مواصلة الكلام على مدى ساعات طويلة من دون أن يرتكب خطأ لغويّا واحدا، ومن دون أن يتلعثم، أو يفقد تسلسل أفكاره، ومن دون أن يعتريه إعياء أو ملل. وقد قام التنظيم السريّ الذي يشرف عليه بنّي ليفي بتنظيم تظاهرات لمساندة العمّال المهاجرين، والمساجين السياسيّين، وضحايا العنصريّة، والحركات الثوريّة، والثورات الوطنيّة في أسيا، وافريقيا، وأمريكا اللاّتينيّة، مبرّرا أعمال العنف ضد البورجوازيّة. وفي ذلك كتب يقول:”لكي تتمّ الإطاحة بالطبقة البورجوازيّة، سيكون من حقّ البشر فرض فترة قصيرة من الرّعب، وتشريع الإعتداء على كمشة من الأفراد الكريهين والحقراء". وخلال هذه الفترة لم يتمكّن بنّي ليفي من مغادرة فرنسا لعدم امتلاكه أوراق إقامة. ولن يحصل على ذلك إلاّ بتدخّل من سارتر لدى الرئيس جيسكار ديستان مطلع السبعينات. وبإسم مستعار، هو بيار فيكتور،كان يتحرّك، وينشط، ويقود المظاهرات الصّاخبة التي شهدتها باريس في ربيع عام 1968. كما أطلق نشريّة بعنوان "قضيّة الشعب"، وفيها دافع بحماس عن أفكار الزعيم الصيني ماوتسي تونغ الثوريّة. وقد أعجب سارتر بتلك النشريّة،وصعد فوق برميل ليقرأ المقالات الصّادرة فيها أمام العمال والطلبة. لكن إنطلاقا من عام 1972،شرع بنّي ليفي في تغييرأفكاره، ومساره رافضا بعض أعمال العنف التي ارتكبها"الرفاق"، ومصدرا بيانا يدين فيه بشدّة قتل رياضييّن اسرائيلييّن في ميونيخ خلال الألعاب الأولوبيّة التي جرت هناك في صيف العام المذكور. وفي خريف عام 1973، قام بنّي ليفي بحلّ التّنظيم الثوري السريّ الذي كان يشرف عليه، والذي كان يحمل اسم"اليسار البروليتاري". ومجيبا عن استفسارات الرفاق بخصوص هذا القرار، أطلق بنّي ليفي تنهيدة عميقة، ثمّ قال: "علينا أن نضع حدّا للحلم الثوري".

وفي أواسط السبعينات من القرن الماضي، آنضمّ بنّي ليفي إلى أسرة تحرير جريدة"ليبيراسيون" اليساريّة. وفي هذه الفترة توطّدت علاقته بسارتر ليصبح سكرتيره الخاص. وكان يصحبه كظلّه، ومعه يتعامل تعامل الندّ للندّ، بل لن يلبث أن يقع صاحب "الوجود والعدم" في شباك سكرتيره، ويتبنّى أفكاره الجديدة التي تمجّد تعاليم الديانة اليهوديّة، وتدعو إلى التعمّق في قراءة "التّلمود". وقد استشاطت سيمون د بوفورا غضبا بعد أن عاينت أن رفيق حياتها العجوز بات "عبدا "لسكرتيره،،له يخضع فكريّا خضوعا مرعبا، ومثيرا للشكوك. ولم يلبث بنّي ليفي أن اعتنق تعاليم الديانة اليهودية ملتزما بطقوسها التزاما كلّيا، فلا يتناول غير الوجبات المعدّة حسب التقاليد اليهوديّة الصّارمة(الكاشر)، ولا يقرأ كتبا أخرى غير "التّلمود". وفي كتابه "إغتيال القسّ" هو يشنّ هجوما عنيفا على الفلاسفة التنويرييّن اعتمادا على التعاليم اليهوديّة التي يعتبرها مرجعا أساسيّا وكونيّا للفكر الإنساني برمّته. وفي القدس التي اختار الإستقرار فيها،كان يردّد:”وحدها صخرة القدس تسكّن روحي،وتطمإن خاطري!”.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي