: آخر تحديث

سخرية ترامب من ماكرون!

62
59
51
مواضيع ذات صلة

  محمد حسين أبوالحسن

 يا إلهى، تتساقط المسلّمات من حولنا، وكأننا فى حلم أو كابوس، هل كان أحد يتصور تصدع الاقتصاد النيوليبرالى، الآثار بادية فى بريكست والتفسخ الأوروبى، ضربات السترات الصفراء فى قلب العاصمة الفرنسية، كأنها إحدى عواصم العالم الثالث البائسة تحت وطأة الاستبداد والفقر. يزيد المشهد غرابة، تويتات الرئيس الأمريكى ترامب الساخرة من نظيره الفرنسى ماكرون، هل لهذا علاقة بإعلان الأخير رغبته فى إنشاء جيش أوروبى، قبيل اندلاع المظاهرات؟، أى إجابة متعجلة ضرب من الهذيان!. المفارقة أن هذا تزامن مع إعلان ترامب هدنة فى الحرب التجارية الأمريكية على الصين، فى حين يكشر الدب الروسى عن أنيابه للغرب، ضاق بعقوباته وتحرشاته، هدد بإنتاج صواريخ محظورة لو انسحبت واشنطن من معاهدات الحد من التسلح المبرمة خلال الحرب الباردة، أما نتائج قمة العشرين بالأرجنتين فكانت هزيلة!.

 الحرمان والخوف، ليسا أمورا قدرية أو فطرية، بل هما نتاج نظامٍ عالمى قاهر، أساسه الراسخ الظلم والتوحش وعدم العدالة. هل يمكن الجدال بأنّ ما يحدث فى الاقتصاد العالمى والبؤس الذى تسببه الرأسمالية المتوحشة، أمر طبيعي؟، تجتاح الأزمات غالبية بلاد العالم، يتغوّل النظام المالى وتنفلت الديون وتفلت الأسواق من الضوابط، مجتمعات توجه ثرواتها إلى الإنفاق الترفى المظهرى، بالمقابل تتراجع ضمانات العدالة الاجتماعية، تصير أغلبية السكان محرومة من متطلبات الحياة الكريمة، تسقط فريسة للشقاء والعنف. فى موازاة تفاقم الصراعات بين الاقتصاديات الكبرى، على الأرباح والثروات والأسواق. الدول النامية هى ملعب المواجهة بين العمالقة. المواجهة بين أمريكا المهيمنة والصين الصاعدة ستقرر مصير شعوب الشرق الأوسط وبقية شعوب العالم، هنا لابد من الالتفات إلى تحذيرات الدكتور إدوارد سعيد من المساعى الغربية الدائمة لممارسة القوة ما وراء البحار، فى الشرق والجنوب، ومن ثم ابتكار أشكال من السيطرة، لضمان تحكم المجتمع الصناعى الغربى بقدر كبير فى الموارد الإنسانية والمادية، وفرض التبعية على بقية سكان الكوكب، وفقا لتصورات (القوة الخالصة المباشرة)، أو ما سماه جورج كينان (سياسة الاحتواء).

قبل رحيله، بسط الدكتور سمير أمين الاحتمالات الممكنة، فقد أفضت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1873 لتوسّعٍ الاستعمار الأوروبى ونهب موارد المستعمرات، وأدت أزمة 1973 لتوسّع مطرد فى منظومة العولمة واختراق اقتصاديات دول الجنوب ودمج أسواقها وأموالها. اليوم أفقرت الرأسمالية بعض الجماهير الغربية، لضخامة أرباح المصارف وشدة برامج التقشّف، وقد تعتزم الارتداد عن العولمة؛ فالمؤسسات الدولية ووهم الانفتاح والتنافس الحرّ لم تعد مرغوبة بسبب الأزمة. هذه الشعوب، خاصة مع صعود اليمين المتطرف ــ ربماــ تريد العودة للنمط الأقدم من التوسع الاستعمارى الأكثر شراسة، بالسيطرة والنّهب المباشر لثروات شعوب العالم الثالث. فماذا نحن فاعلون؟!.

طبول الحرب تقرع من حولنا، الشرق الأوسط غارق فى الدماء والأزمات، وتشتعل الحرائق فى مناطق أخرى بالعالم.. المعركة الكبرى تدور رحاها بين العملاقين، أمريكا والصين، حول الاحتكار التكنولوجى، احتكار يتيح للغرب عوائد هائلة وجانبا مهما من رخاء شعوبه. أشارت مجلة الايكونوميست البريطانية، أخيرا، إلى سعى واشنطن لعرقلة بكين عن دخول صناعة الشرائح الدقيقة التى تحتكرها فعليا، لغياب المنافسين، وتدر مئات المليارات من الدولارات، وسوف تقاتل من أجل ضمان ذاك الاحتكار وثماره اليانعة بأى ثمن. أدمن الأمريكيون منطق القوة العظمى المهيمنة، لم يعتادوا الشعور بالهزيمة أو الانحدار، هذا وجه آخر للخطورة، فلا أحد يتخيل علامَ قد يقدمون؟! تماما مثلما لا يضمن انتصار الصين ببناء نظام عالمى أقل مأساوية وأكثر عدالة.

إن هذه اللحظات تحديدا تحتاج إلى إعادة فتح النقاش، حول ما استبصره سعيد وأمين، النوايا الحسنة ليست كافية لإنقاذ أوطاننا من هول ما قد يحدث، محاولات التجدد واستعادة الحيوية عن طريق العنف فى الغرب جرس إنذار مجلجل، سخرية ترامب تكشف عن الكثير، لقد دعا إدوارد سعيد لإدراك طبيعة الموقف الأخلاقى والفكرى والسياسى، والتواصل مع الآخر، والإثراء المتبادل للثقافات ومواجهة الاستعمار والهيمنة والتسلط والديكتاتورية، كذلك مواجهة القوميات الضيقة والهويات المتشرنقة.

وفى هذا السياق السائل، من الضرورى أن يكون الشعب بجانب الحاكم، ولأن غالبية الشعب من الفقراء والعمال والفلاحين، وهم غالبا بلا وعى سياسى، فإنهم يستحقون وعدا حقيقيا بأن حياتهم ستتغير للأفضل، من خلال عدالة توزيع أعباء وثمار السياسات الاقتصادية والثروة الوطنية دون انحياز ضدهم، إن أحداث باريس وسخرية ترامب تطرح أسئلة جوهرية حول أهمية إعادة النظر بالنظام الاقتصادى النيوليبرالى من الأساس.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد