: آخر تحديث
مستطلعو "إيلاف المغرب" لا يلمسون فائدة عملية في وجودها

انتقاد واسع لدور الـ"هاكا" في تقنين الإعلام المسموع والمرئي بالمغرب

93
96
69

مضى على إحداث "الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري" (هاكا) بالمغرب حوالى عقدين من الزمان. كان تأسيسها إيذانًا من العهد الجديد بوضع حد لاحتكار الدولة لهذا القطاع الجماهيري، ودعمًا للتحول الديمقراطي، وتجاوبًا كذلك مع التطور الحاصل في وسائل الاتصال الحديث المتجه نحو التعددية القصوى؛ ما يتيح عروضًا متنوعة ونوعية للجمهور العريض، يختار ما يريد مشاهدته وسماعه من المحطات الإذاعية وقنوات التلفزيون العمومي والخاص على السواء.

إيلاف من الرباط: أصبحت الهيئة المعلن عنها بوساطة ظهير (مرسوم) ملكي، في شهر أغسطس 2002 مؤسسة متمتعة بالاستقلال المادي والمعنوي، تخضع للرعاية الملكية، مهمتها تقنين وتنظيم الفضاء الإعلامي المسموع والمرئي، لضمان تعدديته، وحياده وتجرده ونزاهته  في إطار من التنافسية العادلة بين مكوناته. 

واكب إحداث الهيئة العليا للمسموع والمرئي، ورمزها المختصر بالفرنسية الـ"هاكا"، الشروع التدريجي في سياسة تحرير القطاع، بمنح تراخيص لمجموعة من الإذاعات الخاصة، التزم أصحابها بدفتر شروط.

هكذا توزعت المحطات الجديدة بين المدن المغربية، تبث بالعربية والفرنسية والأمازيغية بدرجة أقل، مع توجه مقصود من غالبيتها نحو التواصل مع المستمعين بالعامية أو بلغة هجينة، هي خليط من الفرنسية واللهجات وكلمات من الفصحى، بدعوى تقريب الخدمة من فئات المجتمع المغربي؛ وهذا مشكل كبير، لم تعره الهيئة اهتمامًا، بمبرر حرية التعبير، والنأي عن التدخل في تنظيم السوق اللغوية.

معلوم أن المغرب كان سباقًا، بين الدول العربية، التي أحدثت لاحقًا جهازًا يتولى مراقبة مستقلة وعادلة لمحطات البث المسموع والمرئي، وذلك بالتأكد من احترامها لدفتر الشروط الملتزمة به، قبل حصولها على التراخيص والإذن بالشروع في البث.

وعلى الرغم من ريادة المغرب في تحرير الإعلام المسموع والمرئي باعتباره من العلامات المميزة للعهد الجديد في ظل حكم الملك محمد السادس؛ فإن التجربة ما زالت في بداياتها، ولم تفرز بعد كل النتائج المبتغاة، أي تأهيل وإغناء الحقل الإعلامي المرئي والمسموع.

لا يلمس المغاربة في الهيئة العليا جدوى ملموسة؛ ذلك ما كشفه بوضوح الرأي السلبي المعبّر عنه في استطلاع موقع "إيلاف المغرب".  

فعند سؤال عما إذا كانت الهيئة المكلفة تقنين الإعلام المسموع والمرئي تقوم بأداء مهمتها على الوجه الأفضل؟. أجاب بالنفي ثمانون في المائة من المستجوبين، باختيارهم خانة "لا" القطعية، بينما تقاسم بالتعادل من وضعوا علامة على خانتي "نعم، ولا أدري"، أي إن 90 في المائة من المستجوبين يشككون أو غير مقتنعين بالهيئة وبالدور المنوط بها على الوجه الأمثل. والمؤكد أنها نتيجة استطلاع مثيرة، كيفما كانت نسبة المشاركين فيه، تعكس قطعًا جانبًا من الحقيقة. 

فما هي الدلالات الثانوية وراء النسبة المرتفعة بكون الهيئة مقصرة في دورها على الوجه الأكمل؟، وكيف يمكن تفسير وتعليل المواقف السلبية من مؤسسة تعتبر إحدى ركائز الحياة الديمقراطية في المغرب الحديث. مؤسسة تضطلع بتقنين العلاقة المهنية والقانونية: بينية أولًا، ثم مع الدولة، وأخيرًا الجمهور المستهلك.  

أيعود حكم المستطلعين إلى تقصير الهيئة المستقلة في التواصل وفي التعريف بدورها وإقناع الناس بأهمية وظيفتها، أم إن طبيعة التحكيم المستقل المسند إليها، يفرض عليها العمل بحياد تام والاكتفاء بتنفيذ القانون والشروط الناظمة للمهنة، بتعاون مع المتعهدين الفاعلين في المجال، عبر الاحتكام إلى آليات المعاينة والتتبع ورصد الخلل وتدوين كل ذلك في تقارير دورية، تحصي وتوثق المخالفات، تصدر الهيئة بخصوصها الجزاءات المناسبة؟. 
 
أكيد أن ضبابية تصور الهيئة في الأذهان؛ تقف إلى حد ما وراء المواقف المتسائلة عن جدواها والغاية من وظيفتها؟. فاعتبرها المستجوبون ترفًا زائدًا وضياعًا للمال العام؛ ما دام وجودها لا يحفز وسائل الإعلام المسموع والمرئي على الارتقاء بالبضاعة التي تقدمها إلى المغاربة، على مدى الأيام والليالي.

صحيح أن مهمة الهيئة تنحصر في مراقبة بالسمع والنظر، لما يبث من دون الحق في فرض خط تحريري على مالكي الإذاعات والقنوات، بل التأكد فقط من ملاءمته مع دفتر الشروط. فلماذا لا يكون لها الحق في الاعتراض على أي إنتاج تراه ضعيفًا من الناحية الفنية والذوقية، فضلًا عما إذا شكل المبثوث والمذاع خرقًا سافرًا للقوانين الضابطة للممارسة الإعلامية، كالاستهتار بالقيم الدينية والأخلاقية وعدم احترام ثوابت الأمة ومؤسساتها الدستورية؟.

انطلاقًا مما سبق يحق التساؤل: هل تسرع المغرب في إحداث وعاء قانوني لترشيد نشاط إعلامي غير مكتمل ،لا يلبي حاجيات المستهلك، ويفتقد مواصفات الجودة والإمتاع، أي إنه في مجمله دون المستوى المطلوب، وخصوصًا الإنتاج التلفزيوني الذي يتطلب شروطًا مهنية وقاعدة تجهيزات متقدمة لا يخاطر الفاعلون بالاستثمار فيه، خشية غزو الفضاء بقنوات أجنبية بعدد النجوم، يشرف عليها فاعلون متمرسون كبار.

هل كان على السلطات المغربية التريث إلى حين ازدهار مهن الإعلام وتراكم المعرفة بصناعتها ويتعود الناس على التمييز الواعي بين الجيد والرديء؟.

جدير بالذكر أن الترخيص بالبث ما زال محصورًا على المحطات الإذاعية وبث تجريبي لقنوات تلفزيونية. وليس أمام الهيئة إنتاج غزير وغني للنظر والبت فيه واستخلاص النتائج بغاية تطوير المهنة ودعم قدرتها  على الاستقطاب والتنافسية.

لقد فرض التحول السياسي والاجتماعي في المغرب ضرورة استكمال الترسانة القانونية المنظمة للحقوق والواجبات وعدم ترك الباب مفتوحًا لفوضى في الممارسة الإعلامية، على اعتبار أن التعددية السياسية والليبرالية الاقتصادية وحقوق الإنسان واستقلال القضاء وإنصاف المرأة ومساواتها في الحقوق؛ إضافة إلى الإقرار بالتعدد اللغوي والتمايز الجهوي، تبعًا لما نص عليه الدستور الجديد.

كل ما سبق يشكل منظومة متكاملة ومتداخلة، يستحيل أن لا يرافقها تأهيل للحقل الإعلامي لتكريس التعددية في وسائل الإعلام المسموع والمرئي، على غرار منسوب الحرية الذي تتمتع به الصحافة المكتوبة، والتي أصبح لها قانونها الخاص، ما مكنها أخيرًا من انتخاب هيئاتها المستقلة لتدبير الكثير من شؤونها. وهي التي شكك مستطلعو "إيلاف المغرب" في جدواها، من قبل
المغرب في بداية مساره الديمقراطي الطويل. أمامه عقبات وصعوبات ومقاومة للإصلاح، والإعلام بطبيعته جسم لا يكف عن الحركة ولا يريد أن يهدأ.

جدير بالذكر في هذا السياق أن نظرة مغاربة إلى عدد من المؤسسات، بما فيها الدستورية، تتسم إجمالًا بالسلبية، لا ترى فيها فائدة ومنفعة. إنه إشكال تتحمل وسائل الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب بصفة عامة مسؤولية استمراره وضعف دورها التوعوي وتخليها عن واجب تنوير المواطن.

في سياق مماثل، باتت الصحافة المكتوبة متراجعة من سنة إلى أخرى، بعيدة عن انشغالات القارئ المنتقد ومشاكله الحياتية الصغيرة والكبيرة. أما الصحافة الالكترونية فتعيش من جانبها "فوضى" وعدم استقرار، بعضها أصبح مصدر شكوك للرأي العام اضطرت معه الدولة إلى اتخاذ إجراءات لإلزامها بتنظيم نفسها وفق شروط مقاولة، لها مدونة سلوك.  

وأخيرًا ليس المطلوب في الظرف الراهن من الهيئةً العليا للإعلام المسموع والمرئي أن تظل مجرد جهاز محايد لرصد للمخالفات المرتكبة وتحرير تقارير مفصلة عن ساعات البث وتوزيعها العادل بين المتدخلين، بل المطلوب أن تكون القوة الدافعة للنهوض بالمشهد الإعلامي.

نتيجة استطلاع "إيلاف المغرب" تنتقد صراحة الوظيفة الحالية للهيئة، وهي إدارية محضة بمعزل عن تطلعات المشاهدين ورغبات المستمعين في مجتمع ضاج بالحركة والحيوية منفتح ومتفاعل مع ما يجري في العالم.

إن الثورة الرقمية الحاصلة في فضاء الاتصال جعلت من التقنين والضبط والتحكيم التقليدي أدوات متجاوزة. يفترض في الهيئة العليا أن تتهيأ وتستعد لمنافسة إعلامية ضروس، ليس بخوضها، وإنما بإعداد الإستراتيجية والخطة البديلة ليتسلح بها الفاعلون.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في أخبار